كما سبق وذكرت في مدونة الأسبوع الماضي أنني عندما وصلت إلى السويد كنت أخشي أن لا أجد ما أعمل به كناشطة حقوقية وذلك لأنني كنت أتوقع أن الاشخاص ذوي الإعاقة هنا يعيشون ظروفا مثالية , إلا أنني سرعان ما اكتشفت أن هناك العديد من القضايا التي ينبغي التعامل معها وكذلك وجدت أن هناك القليل جدا من الأفراد أو الجماعات الذين يهتمون بالفعاليات الحراكية والمجتمع المدني, ومع أنه تعتبر الطالبة السويدية (Greta Thunberg) من أهم الشخصيات الرمزية التي عرفت في الاضراب الطلابي من اجل البيئة والمناخ عام 2018, إلا أنه من المهم أن ندرك انه نادرا ما يتم هنا تنظيم مثل هذه الفعاليات.
وكما يرى الخبراء والمختصون فإن السويد غالبا ما يوصف على انه مجتمع يتمتع بـ "الثقة العالية" وبمقدار كبير من الإيمان بسياسة حكومته, فمشاركة الافراد في المسائل المدنية عالية كما تشير نسبة مشاركة الناخبين في العمليات الانتخابية, ولكن تعتبر المشاركة خاصة مشاركة اصحاب رؤوس الأموال والاسهم والشركات في العمليات الديمقراطية الاوسع وفي صنع القرار منخفضة جدا وأقل من المعدل المعتمد في منظمة التعاون الاقتصادي والتطوير, وكما يبدو بشكل عام فإن السويديين على اهتمام كبير بالمشاركة في الانتخابات ولكن عند انتهاء تلك الانتخابات فإنه تعطى الثقة الكاملة لكل من تم انتخابه على اعتبار أنه سيقوم بوظيفته على أتم وجه إلى أن يأتي موعد الانتخابات الجديدة.
يرجع الغياب النسبي للمجتمع المدني والفعاليات الحراكية في السويد في غالب الاحيان الى الايدولوجية السائدة في دولة السويد – سيطرة الحكومة المركزية على الاقتصاد الوطني, والتي تسعى الدولة من خلالها الى تحرير الافراد من التبعية والاعتماد على الآخرين وإلى تحريرهم من إمكانية وقوع إشكالات في العلاقات مع الوالدين او الابناء او شركاء حياتهم. لكن من الآثار الجانبية لهذه السياسة هو النسب العالية من حالات الشعور بالإغتراب والوحدة والعزلة الاجتماعية.
لقد أصبح غياب المجتمع المدني أكثر وضوحا إثر الضعف العام الذي تعرضت له دولة الرفاه السويدية منذ السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي حيث كاد يخلو المجتمع من وجود منظمات تعارض التوجهات نحو سياسة التخصيص او تتدخل لتوفير شبكة تعنى بالسلامة الاجتماعية, باستثناء الاتحادات مع أن الفعاليات المباشرة مثل الاضرابات تكاد تكون معدومة وقلما تجد أي تعاطف, وذلك يرجع في الغالب الى الثقة العالية التي يوليها السويديون للحكومات والاتفاقيات القائمة.
عندما وصلت الى السويد لأول مرة, مكثت في قرية صغيرة في منطقة (سمولاند) حيث لا يتوفر الكثير من وسائل المواصلات العامة او وسائل التسهيل الضرورية لذوي الاعاقة, وعندما حصلت على قرار الاقامة كان يتعين عليّ أن أتوجه إلى المحطة عند الساعة الرابعة من قبل طلوع الفجر وفي أحلك الاوقات من السنة في غمرة الثلوج والبرد (20 درجة مئوية تحت الصفر) للسفر الى مدينة قريبة والحضور شخصيا لدى الادارة هناك. لم يكن لديّ كرسي كهرباني في ذلك الوقت ولكن لحسن الحظ رافقتني الى هناك ابنة عمي التي ساعدتني في دفع الكرسي اليدوي. كان علينا أن ننتظر عدة ساعات طويلة في العراء وتحت تساقط الثلوج قبل ان تم فتح المكاتب وبعد ذلك كان علينا ان ننطلق مسرعين حتى لا تفوتنا وسيلة المواصلات الأخيرة المتوفرة. كنت اظن حينها ان الظروف يمكن أن تكون أفضل بكثير في المدن الأكبر ولكن عندما انتقلت للدراسة الى مدينة (لوند) وجدت أن الجامعة هناك لم تكن أيضا تتمتع بوسائل تساعد ذوي الاعاقة على الحركة والتنقل.
ما أدهشني جدا اثناء عملي في مجال حقوق ذوي الاعاقة في السويد هي تلك الحالات التي عجز فيها المجتمع المدني عن التحرك والتدخل بعد فشل المؤسسات الحكومية في معالجتها. لقد عملت لدى منظمة في مدينة ستوكهولم حيث كنت اساعد اللاجئين من ذوي الاعاقة, وأثناء عملي هذا اكتشفت أن هناك الكثير من الأشياء التي كان من المفترض ان تكون مهيأة للمعاقين لكنها لم تكن كذلك بالفعل, وذات مرة قام احد اللاجئين المعاقين باستدعائنا لمساعدته وتمكينه من تحصيل حقوقه, كان هذا المعاق يمكث في مخيم للاجئين ولم يكن يستطيع مغادرة سريره دون مساعدة الآخرين بسبب اعاقته, وكما كانت خبرتي التي مررت فيها في تلك الليلة الظلماء الباردة قبل بضعة سنوات فقد تلقى ذلك الشخص كتاب الموافقة على الاقامة لكنه كي يتقدم بطلب للحصول على مساعد شخصي له وللحصول على كرسي متحرك مناسب كان يتوجب عليه ان يقوم بالتسجيل لدى قسم الضريبة وأن يتلقى ما يسمى بــ "رقما شخصيا", وهو رقم تعريفي من الضروري الحصول عليه لممارسة جميع مناحي الحياة في السويد ومن اجل التمكن من المطالبة بالحقوق.
ومن أجل الحصول على ذلك الرقم التعريفي وبطاقة اثبات الشخصية كان يتعين على ذلك المعاق السفر الى مكاتب قسم الضريبة في مدينة قريبة. مع كل ذلك, لم يكن من مسؤولية هيئة الضريبة ولا من مسؤولية قسم الهجرة التي تعنى بمكان سكناه في مخيم اللاجئين أن توفر له المواصلات الموائمة لحالته الصحية. فقد عرفنا ان على قسم الهجرة ان يقوم بتوفير مواصلات لأسباب صحية فقط او لحضور لقاءات مع موظفي قسم الهجرة المختصين بالتعامل مع شؤون وحالات اللاجئين, وعليه لم يكن هناك من هو مسؤول عن توفير المواصلات المناسبة التي كانت تتطلبها حالته الصحية, لذلك فهناك فجوة كبيرة جدا في الانظمة الخاصة بوسائل التسهيل والتمكين للأشخاص من ذوي الإعاقة.
عندما طلب ذلك المعاق منا المساعدة, قمنا بمراجعة البلدية وقسم الضريبة اضافة الى قسم الهجرة ولكن لم تقبل أي من هذه الجهات المسؤولية عن توفير هذه المواصلات. كان من الممكن ومن المتوقع هنا ان يبرز دور المجتمع المدني ويتدخل للحل, ولكن لم يكن هناك أي حل مباشر لهذه الحالة من قبل المنظمة التي كنت اعمل لديها في ذلك الحين, وما كان على ذلك الشخص سوى الانتظار معلقا مدة شهرين لا يدري ما يفعله. وفي النهاية, عندما اخبرني انه يعاني من الم في بطنه, أدركت أنني بذلك يمكن ان اساعده, فوجدت مركزا طبيا لم يكن بعيدا عن مكاتب قسم الضريبة, وبهذه الطريقة تمكن ذلك الشخص من الحصول على مواصلات موائمة نقلته الى الطبيب لتلقي العلاج والى قسم الضريبة حيث يمكنه استلام رقمه التعريفي الخاص به.
في السويد ليس من السهل أبدا أن تجد حقوقك متاحة وميسرة, وعليك أن تكافح من اجلها! من هنا تأتي أهمية وجود دور المجتمع المدني والفعاليات الحراكية خاصةً وأن حقوق الاشخاص ذوي الاعاقة في السويد في تدهور مستمر ولكن بطريقة لا تبدو ظاهرة بوضوح لغير اولئك المعنيين بتلك الحقوق بالشكل المباشر. فمثلا يتم الحد باستمرار من حق مخصصات ساعات الرعاية الشخصية وكذلك من مخصصات الدعم المالي كما يتم وضع المزيد من العقبات امام تحصيل تلك الحقوق. إضافة الى ذلك فإنه يتم التعامل مع الاشخاص من ذوي الاعاقة على أساس مختلف وغير عادل في نظام الرعاية الصحية, فمثلا لعدة سنوات كنت بحاجة الى عملية جراحية في ركبتي التي كانت تسبب لي الما شديدا, ومع ذلك فقد تم تأخير التعامل مع حالتي الصحية من قبل النظام الصحي على عكس اولوياتهم باعتباري غير قادر على المشي أصلا. وقد تم عرض الحجة نفسها من قبل شركة التأمين التي قامت بدفع مبلغا بسيطا من المال عندما تعرضت رجلي للكسر, زاعمين ان ذلك الكسر لم يكن بالأمر الهام على اعتبار انني لا امشي على أية حال! هناك أيضا ما يسمى بالترشيد الطبي الناتج عن اقتطاعات في الميزانية المخصصة للرعاية الصحية, الأمر الذي يلمسه ويعاني منه ذوي الاعاقة اكثر من غيرهم.
هذه هي احدى المفارقات التي يُبنى عليها نجاح دولة السويد! فهي كواحدة من اقوى دول الرفاه في العالم قد ضمنت أن هذا البلد يتمتع بنسب عالية من مستويات العيش في العالم, لكنها في الوقت ذاته كأي دولة أخرى في أي مكان من هذا العالم البائس, لديها من الفجوات ما يحتاج الى الجسر والتجبير.
إن الثقة التامة التي يمنحها المجتمع السويدي للحكومة وإيمان هذا المجتمع بالنظام القائم والاعتقاد الراسخ بأن جميع النضالات من أجل بناء دولة الرفاه الاجتماعي قد حققت فوزها, كل ذلك يدل على محدودية دور المجتمع المدني وهشاشة البنية التحتية للفعاليات والحراك الشعبي من اجل النضال جماعيا ضد تقليص الحقوق وممارسات اللامساواة الموجودة حاليا.
يبدو ان السويديين الذين لا يعانون شخصيا من ممارسات عدم المساواة وهضم الحقوق يقومون بدفع ما عليهم من ضرائب بكل رضا وسرور ويؤمنون بأن هذه الأموال تصب في قنوات نظام على مستوى عالي من الاداء. لذلك, نحن بحاجة الى تضافر جهود المجتمع المدني وفعاليات الحراك الشعبي من أجل لفت الانتباه الى العيوب ونقاط الضعف في ذلك النظام ومن أجل العمل معا على إحداث وخلق التغيير, فأصواتنا الجماعية هي حتما اصوات اعلى بكثير من أصوات أفراد هنا او هناك!
جافيا علي
コメント