طوال حياتي لدي شعور مميز تجاه التدخين، فأنا أكره التدخين وأحبه في آن واحد، وبصراحة فإنني لم أكن يوما قادرا على فهم هذا الشعور، فطالما ارتبط التدخين بالنسبة لي بأناس قاموا برعايتي في طفولتي: والدي ووالدتي وعمي وزوجته، وكطفلة صغيرة لطالما كانت رائحة دخان السيجارة شيئا مألوفا بالنسبة لي وشيئا يشعرني عمليا بالراحة والأمان، ولربما الغريب في الأمر أنه لم يصدف ذات يوم وأن شعرت برغبة بالتدخين، كل ما هنالك أنني كنت أجد متعة في رائحة دخان السيجارة، وحاليا كوني غير مدخنة أشعر أحيانا أنه ينقصني الكثير خاصة وأن العديد من جلسات النقاش الجادة والاتفاقيات الناجحة لا تتم الا في فسحة التدخين وعلى يد اولئك المدخنين.
يوم أمس سألت والدتي عن عمر فترة تدخينها للسجائر فجاءت إجابتها على غير التوقع، اخبرتني أنها كانت تكره التدخين طوال حياتها لدرجة أنها لم تكن تسمح لوالدي الاقتراب منها إذا ما كان يحمل سيجارة، وأنها كانت تجبره على غسل يديه بعد التدخين وقبل الاقتراب منها. أخبرتني أنها في سن الثالثة من عمري ونظرا لإعاقتي، أخذتني هي ووالدي وسافروا بي إلى العديد من البلدان الاوروبية بما فيها ما كان يسمى التحاد السوفييتي حينذاك، وذلك بهدف إيجاد طبيب يتمكن من علاجي.
كان آخر اولئك الأطباء طبيب في اسبانيا، حيث اوصى بمكوثي هناك في المشفى لتلقي العلاج، فقرر والدي ووالدتي أن يتركونني في مدريد مع عمي وزوجته المقيمين هناك وأن يعودوا إلى بلدهم في سوريا وذلك لضرورة الذهاب والعناية بأطفالهم الثلاث الصغار هناك، وعندما ودعتني أمي لآخر مرة في المشفى قبل سفرها فإنها لم تستطع السيطرة على نفسها وانهالت بالبكاء.
في ذلك اليوم كانت هناك دعوة لوالدي ووالدتي على مأدبة غداء في احد المطاعم الفاخرة التي كان يرودها السيد فرانكو في زمنه، ولكن لم تتوقف والدتي عن البكاء في المطعم لأنها كانت تتقطع حسرة على رؤيتي للمرة الأخيرة في المشفى قبل السفر، رفضت والدتي تناول الطعام في المطعم، ومع أن الجميع حاول اقناعها أن تأكل شيئا إلا أنها لم تستطع أن تأكل ولم تتوقف عن البكاء، عندها قدم عمي لها سيجارة لعل تلك السيجارة تخفف عنها تلك الحالة وفعلا أخذتها والدتي، في ذلك الوقت كان من الغريب أن تحمل والدتي تلك السيجارة وتقوم بالتدخين نظرا لأنه كان من غير المقبول اجتماعيا أن تقوم المرأة الكردية بالتدخين فكيف بذلك في مكان عام في المطعم، كما أن أخذها للسيجارة من عمي في حد ذاته شيء مثير للاستغراب أيضا، ولكنها أرادت أن تخفف عن نفسها، وتقول والدتي أنها شعرت فعلا بشيء من الراحة لحظة أخذها لأول نشقة من السيجارة، وكما تقول والدتي فإن دخان السيجارة الذي دخل جسمها ساعدها على إطفاء الألم الذي كانت تشعر به داخلها.
ومنذ ذلك اليوم أصبحت السيجارة هي وسيلة للتخفيف والتأمل حتى يومنا هذ، ولم تفكر أبدا بترك التدخين منذ ذلك الوقت.
وبعدما استمعت إلى قصتها الطويلة مع التدخين، ومع أني في غاية القلق على صحتها، وجدت نفسي غير قادرة على الطلب منها تركه، ومع أنني لطالما شعرت طوال حياتي أن إعاقتي تشكل عبئا ثقيلا عليها، إلا أنه بعد سماعي للقصة أصبحت أشعر بالذنب خاصة وأنه قبل كل شيء أنا من تسبب لها بالتعلق بالتدخين، في الوقت ذاته فإنني أشعر بالسعادة من أجلها ما دامت تجد راحة ومتعة في تلك السيجارة.
بالنسبة لي فوجئت بالقصة التي كانت تكمن خلف تلك الرائحة المألوفة لسيجارة والدتي، فاقد عرفت والدتي طوال حياتي، وإن كان في هذا العالم شخص كنت أظن أنني أعرفه جيدا فهو والدتي بالطبع، ومع ذلك ها هي قصة والدتي والتي هي حقيقة في بالغ الاهمية وتهم حياتنا الاثنتين ثبت أنني لم أكن أعرف عنها شيئا...! في نهاية الأمر إذن، فإن ما نعرفه عن الآخرين أو ما نظن اننا نعرفه عنهم ما هو إلا بعض عيدان خفيفة من الحطب تطفو على سطح بحر عميق يصعب علين فهمه أو سبر غوره. علينا اذن أن نعلم أنه ربما هناك أسباب لا يمكننا تصورها تكمن وراء ردود أفعال الآخرين وعاداتهم وأنماط سلوكهم.
تلك القصة جعلتني أدرك أنني لم أكن أعرف عن والدتي من قبل الا القليل وهي التي جعلتني أتقرب منها اكثر، كما تعلمت من تلك القصة أنه لا ينبغي أن أسلم بالأشياء لمجرد أنها مألوفة وأنه ينبغي أن أتعرف على والدتي من جديد وكأنني صفحة بيضاء لا أعرف عنها شيئا من قبل بعيدا عن كل ما أحمله من افتراضات مسبقة، قصة والدتي أيضا حملتني على إعادة تقييم كل شيء ظننت أني أعرفه عن الناس الآخرين سواء المقربين مني أو هؤلاء الناس الغرباء الذين قد ألتقي بهم ذات مرة.
بالطبع هذا لا يعني انني لن أواصل القراءة ما بين السطور لمحاولة فهم أسباب ما يقوله الناس أو ما يتصرفون به، وبالطبع فإنه لا يمكنني أن أحرر نفسي من التأمل في كيفية تطور المواقف والاشياء، ولكن في الوقت ذاته بمقدوري ألآن أن أرجع خطوة إلى الوراء وأن أدرك أن كل ما ألاحظه في هذا العالم الذي يحيطني وأعتقد أنه صحيح هو فقط مجرد افتراضات ليسن مبنية على حقائق أو دلائل. وبالطبع فإن تلك الافتراضات يمكن أن تصيب ويمكن أيضا أن تخطئ، كما يمكن أيضا أن لا تظهر الصورة الكاملة للواقع، وفي كل حالة علي أن أتذكر دائما ألا أحكم على الأشخاص أو الأشياء من ظاهرها، فما دام هذا الامر صحيحا فيما يخص الماضي وقصصه التي حدثت قبل عقود من الزمن، فإنه بالطبع صحيح بل وعلى اهمية كبيرة بالنسبة للمستقبل.
وعليه، ومع اقتراب انتهاء هذا العام، فإن من أهم الدروس التي قد تعلمتها هو إدراكي التام بوجود ذلك الكم من القصص الخفية التي يحملها الكثير من الناس وأن المستقبل لا زال يخفي الكثير.
لقد اطرحت وراء ظهري عمرا كاملا من الافتراضات والاعتقادات غير المبنية على الحقائق، فتحررت وشعرت بالمزيد من الانطلاق وبحيوية وحرية أكبر.، سأستقبل العام الجديد 2022 بعقلية أكثر تفتحا كما أدعوكم أيضا للقيام بالمثل، في كل عام جديد نأخذ قرارات تخصنا وتفيدنا وقراري لهذا العام الجديد أن أترك دائما فسحة لما هو غير متوقع.
خبرتنا السابقة تحمينا وهناك بالتأكيد مواقف تعلمنا أن السذاجة قد تؤدي الى المصائب والكوارث، فمهما حدث في هذا العام المنصرم أو في الأعوام التي سبقته، سندرك في نهاية الامر أن كل لحظة في المستقبل هي بمثابة الأرض المجهولة نكتشف فيها كل ما هو جديد من حيث لا نتوقع.
جافيا علي
Chavia Ali
Коментарі