ونحن الأن نستقبل عاما جديدا، لا يسعني في هذا اليوم سوى أن أضم صوتي إلى كل تلك الأصوات التي تعر عن أمانيها في أن يكون هذا العام الجديد (2023) عام خير وسلام تسود فيه العدالة للإنسانية جمعاء على سطح هذا الكوكب. كما أضم صوتي أيضا الى كل تلك الأصوات الأخرى التي تطمح بأن تبنى كل من افعالنا وعلاقاتنا في هذا العام على أساس الانسانية والعطف والشعور بالمسؤولية، والتي بدونها ستتحول حياتنا الى حياة فراغ ودون معنى.
ولكني في هذا اليوم الذي تضج فيه وسائل التواصل الاجتماعي بالتهاني والتبريكات أجد أن من واجبي أن أشير من جديد إلى حقيقة أساسية مفادها أنه علينا أن نميز جيدا ما بين الاعمال الخيرية واستقامة الفرد وتلك الخطابات الرنانة ومجرد التعبيرعن النوايا الحسنة من جهة وبين السعي لخلق مجتمع نتمتع فيه كبشر بحقوقنا الانسانية
إن الاعتقاد بان احقاق الحقوق هو عمل سخي ويدل على منتهى العطف والارادة الحسنة هو اعتقاد مغلوط وفي الوقت نفسه يحكم على الكثير منا ومن اخوتنا من بني البشر بالعيش في حياة من الحرمان والاهانة، وكذلك فإن التصور بأن الحقوق الانسانية هي مجرد طموح وقيمة مثالية (وقد تكون هذه ايضا أمنية من الأماني في هذا العام الجديد) لا يعني سوى أننا سنسمح للمزيد من التأجيل والمماطلة الدائمة كي تستمر لعقود أو قرون أو ألفية أخرى قبل العمل على التنفيذ الفعلي واعطاء تلك الحقوق.
بالنسبة الى اولئك الاشخاص الذين لم تقع عليهم بعد أثار انتهاكات حقوق الانسان، قد يكون من الصعب عليهم إدراك أن هناك مشكلة موجودة، ففي حياتنا اليومية هناك الكثير الكثير من الاشياء غير المرئية أو المطبعة مجتمعيا أو المفترضة على انها صحيحة. قد يكون التعاطف في الأمر من هؤلاء هو البداية ولكن مجرد التعاطف مع اصحاب المشكلة لا يمكن أن يكون كافيا، لأنه كي يتسنى لك أن تضع نفسك في موضعنا وترى وتدرك ما هو غير مرئي تحتاج إلى المعلومات الكافية، وهذا هو السبب الحقيقي لرغبتي في هذا اليوم بمشاركتكم خبراتي في موضوع قلما نتناوله وهو موضوع التكاليف غير المرئية للعيش مع الاعاقة.
أولا، عند حديثي عن التكاليف غير المرئية، أنا لا أقصد تلك الأعباء الواضحة والجلية المصاحبة للإعاقة من امثال المعيقات الجسدية أو تكاليف وسائل التكنولوجيا الضرورية المساندة أو حتى تكاليف العلاجات الطبية للظروف الصحية التي تتسبب بها الاعاقة (فأنا مثلا كمستخدمة للكرسي المتحرك فإن وجودي في وضعية جلوس مستمر على الكرسي المتحرك يعرضني لخطر الاصابة بهشاشة العظام كما يعرضني وبشكل متزايد لأخطار الاصابة بحالات مرضية أخرى متعددة). ما أقصده فعلا عند حديثي عن التكاليف غير المرئية للإعاقة هي تلك التكاليف الزائدة التي لا تعد ولا تحصى، والتي تؤثر على جميع مجريات حياتي كشخص من ذوي الإعاقة ومع أنها للأسف لا تزال تكاليف غير معترف بها فإنها تتراوح ما بين تكاليف بسيطة وتكاليف حياتية مصيرية.
كحالة من هذا النوع من الإعاقة فأنا أعتمد كل الاعتماد على المساعدة الشخصية كما أعـتمد في تنقلي على مدى موائمة الاماكن في كل لحظة وفي كل موقف من حياتي اليومية، وهذا يعني أن تتوفر كل انماط الخدمة كما يفترض لها أن تكون ونظرا للكيفية التي تنظم بها مجتمعاتنا فإنه لا يكاد يكون هناك شيء يعمل بكل سلاسة ودون مشكلات بحيث أجد نفسي مضطرة وباستمرار لتحمل تكاليف زائدة مقابل خدمة "خاصة"، لا تشبه بتاتا تلك التكاليف الاضافية التي يسعد بتقديمها شخص هام جدا (VIP) مقابل خدمة لائقة. فمثلا اذا كانت وسيلة المواصلات العامة غير مهيأة ومن الصعب استخدامها فإنني أضطر لتحمل تكاليف أجرة سيارة خاصة وإذا كانت الحافلة البديلة عن قطار قد تأخر غير مهيأة أيضا لاستيعاب الكرسي المتحرك فإنه يمكن أن ينتهي الأمر بي لأجد نفسي ضائعة ووحيدة في مكان لا أعرف فيه أحدا، وإذا كان العاملون في المطار والذين يفترض منهم تقديم المساعدة لي ينقصهم التدريب الكافي والحرص لتقديم المساعدة المطلوبة فإنه من الممكن لهم إيقاع الأذى بي أو تعريضي لحادث أو خطر، وفي بعض البلدان التي يتقاضى فيها مثل هؤلاء العاملين أجورا زهيدة مقابل ساعات عمل طويلة، أجد نفسي مضطرة أيضا لتحمل تكاليف إكراميات مالية سخية لهم لضمان تلقي الحد الأدنى من الرعاية والاهتمام الذي أحتاجه.
أسكن في شقة مهيأة للإعاقة في ذلك "المنفى الأنيق"، فهذا هو الاسم الذي أطلقه على السويد، ذلك البلد الذي وجدت نفسي مضطرة للنزوح إليه بسبب الحرب في سوريا، وقد يٌعتبر مكان سكني امتياز خاص مقارنة بالعديد من الأشخاص ذوي الاعاقة الذين لا يجدون مكانا مهيأ لحاجاتهم يؤويهم، لكن الشقة التي اسكن فيها أكبر من حيث المساحة وأعلى أجرة مما لو كنت أسكن شقة مناسبة لغير ذوي إعاقة، فأنا كشخص من ذوي الاعاقة أحتاج الى مساحة تتسع للمعدات واللوازم الضرورية المساندة وكذلك فإنني احتاج الى مقدار كاف من السعة في كل بقعة وزاوية من الشقة بحيث تسمح لي باالحركة والتنقل على كرسيي المتحرك، كما احتاج الى تلك المساحة من أجل اللوازم والأدوات المكتبية التي استخدمها خاصة وأنني أعمل من البيت إضافة الى أنني احتاج الى تلك المساحة من أجل أثاث البيت الطبيعية التي تضفي على البيت جوا اجتماعيا وسكنيا.
وفيما لو كان من الممكن لي أن أمارس حياتي الاجتماعية خارج البيت، فإنني سأواجه سلسلة اخرى من المعوقات والتكاليف، فحتى هنا في بلد يفاخر بنفسه من حيث مستويات المساواة في الحقوق، تجد القليل جدا من الاماكن العامة المهيأة بالكامل لحركة واستخدام ذوي الاعاقة. إضافة الى ذلك فإن طبيعة الظروف المناخية القاسية تشكل خطرا بالنسبة لي ولا تسمح لي وأنا على كرسيي المتحرك بالحركة في المدينة مدة أشهر من كل عام، ففيما لو لم يكن بوسعي استقبال ضيوفي في بيتي لتحولت حياتي الى ما يشبه السجن الانفرادي.
كما هو حال الكثير من السوريين الأخرين يعيش أقاربي الأن في أماكن شتى من بلدان العالم المختلفة، ولا يسكن أي منهم في بيوت مهيأة لحاجاتي كشخص من ذوي الاعاقة مما يشكل عبئا أخرا، فلكي أتمكن من السفر لزيارة أحدهم، فإنه من الضروري أن أقوم بحجز مكان سكني موائم، ونظرا لان السكن الموائم لا زال يعتبر نمط من انماط الترف، فإن ذلك السكن يكون مكلفا، ولكي أقوم بالسفر فإن من الضروري أن اتحمل تكاليف الحجز والنقل الخاص الباهظة وان أتحمل تكاليف رحلة الطائرة المباشرة خاصة وانني لا استطيع اختيار الرحلة او الوسيلة الاقل تكاليف كما هو من الضروري ان اجد خطوط جوية ومطارات مهيأة لضمان مستوى كاف من حرية التحرك لجعل سفري ممكنا.
مثال أخر على تلك المعاناة والتكاليف الزائدة يتعلق بالمساعد الشخصي، فالتأمين الاجتماعي السويدي لا يغطي بعض ساعات عمل المساعد الشخصي فالنظام المعروف يعتمد ساعات لا تغطي بعض الحاجات الضرورية، أضف الى ذلك أن هناك بعض الظروف التي تتطلب اثنين من المساعدين، فنظام تحديد الساعات لا يأخذ هذه الظروف بعين الاعتبار، مع أنها في غاية الاهمية خاصة في أماكن لا تتوفر فيها الوسائل التكنولوجية المساعدة على النقل والرفع.
يقولون أن الوقت من ذهب، ولكن الوقت الذي أبذله كشخص من ذوي الاعاقة لا يجد من يحتسبه او يعترف به، وأنا أقوم بتقديم طلبات خاصة للمساعدة أو لاستعادة مصاريف على نفقات مدفوعة او لتزويد الوثائق باستمرار الخاصة بشلل الاطفال وأنني لا استطيع المشي او الوقوف او الحركة.
وإذا ما نظرنا الى الصورة الاكبر في عالم يتوقع منك التنقل والمرونة، أجد نفسي حينها مجبرة على التخطيط مقدما وذلك لضمان أن الظروف المعقدة لتهيئة مكان العمل ومكان الاقامة ونظام التأمين هي خيار ممكن، فأنا لا استطيع "انتهاز الفرص" أو "المجازفة والانتظار" لأرى إن كان ذلك الشيء ناجحا او غير ناجح، لذلك أرى ان الفرص تفوتني، كما أنني لا استطيع أن أتوقع أن بإمكاني ايجاد فرصة عمل تتوافق مع مؤهلاتي بسهولة، أو أن أتلقى راتبا يغطي حاجاتي من المصاريف، ومع أن فجوة الرواتب بين الجنسين قد لاقت بعض الاهتمام الا أن "فجوة الاعاقة" لم تلقى من يسمع لها خارج اطار النشاط الحركي المطالب بحقوق ذوي الاعاقة.
هذه هي مجرد بعض الامثلة على الظروف المُعاشة في بلد ذات طموحات عالية تتعلق بالمساواة في الحقوق وعدم التمييز. فالتكاليف غير المرئية من حيث الوقت الذي أبذله والطاقة والمال هي شيء من المتوقع مني أن اساهم به بنفسي، وحتى في هذا السياق من الامتياز النسبي أجد أن من المتوقع مني أيضا أن أعبر عن امتناني لكل فرصة تتيح لي ممارسة أي عمل مقبول. فلك الأن أن تتصور ظروف جميع اولئك الاشخاص ذوي الاعاقة الذين يعيشون في بلدان لا تتوفر فيها أدنى خدمات التأمين الاجتماعي .
وقد أكون أنا أيضا "محظوظة" جدا كوني ذات اعاقة مرئية، بحيث أن التشخيص الطبي لإعاقتي والاعتراف بها مجتمعيا لا يشكلان قضية كبرى، على عكس اولئك الاشخاص الذين يعانون من تكاليف غير مرئية وحالات بؤس شديدة نظرا لاعاقاتهم غير المرئية، فلطالما كانت اعاقات هؤلاء الاشخاص تٌدرج تحت مظلة "الصحة العقلية" سواء كانت اضطرابات نفسية أو ضعف ذهني، مع أن ذاك المصطلح يشمل في الحقيقة حالات اكثر شمولية، وإذا ما كانت الاعاقة بشكل عام تشكل وصمة عار، فهي وصمة عار مضاعفة بالنسبة لذوي الإعاقات غير المرئية، مما يحول دون قدرة هؤلاء الاشخاص على الإفصاح عن حاجاتهم الخاصة بهم وعن قضايا الموائمة للناس الأخرين.
ومن بين قراراتك الشخصية لهذا العام الجديد تذكر أن لا تفترض جدلا صحة معتقداتك أو أن تبني قناعات حول المحيطين بك من بني البشر أو عن ظروف حياتهم، فكل واحد منا لديه قدرات وطرق فريدة للإسهام في إحلال السلام وتحقيق العدالة على هذه الأرض، فالإعاقة سواء أكانت مرئية أو غير مرئية هي ليست بالأمر المخجل تماما كما هو ليس مخجلا أن نتحدث عن التكاليف الزائدة التي نتحملها أحيانا، فلكي نرقى بمجتمعاتنا ولكي نعمل على التغيير علينا أن نحول ما هو غير مرئي إلى ما هو مرئي وملموس.
ملاحظه: عندما ترى شخصا في مطار، فلا تفترض أنه هناك من أجل الاستجمام! فأنت لا تدرك حجم الألم الذي يختبئ خلف صورتي الفوتوغرافية وأنا في فستاني البرتقالي.. أبتسم..!
جافيا علي
Chavia Ali
Comments