لم أبلغ سوى التسعة أشهر من عمري عندما أصبت بشلل الأطفال الذي تسبب في تغيير مجرى حياتي برمتها، عندها كان من الضروري أن أمضي معظم سنوات طفولتي في المشفى، ومن منطلق الحرص على سلامتي والشعور بالمسؤولية تجاهي، رأت أسرتي في إرسالي إلى بيت عمي في اسبانيا للعيش هناك مصلحة لي، ولكن كان من شدة حرص العائلة على تأمين سلامتي هناك أنني وجدت نفسي "مغلفة" دونما أي فرصة للاختلاط ومعزولة عن البيئة الاجتماعية الطبيعية التي غالبا ما يمر بها ويتربى فيها سائر الاطفال بكل ما تحمله تلك البيئة من احداث وخبرات، ونظرا لهذه الظروف ولعدم توفر امكانية التحاقي بالتعلم المدرسي في ذلك الوقت، كانت النتيجة أنني تلقيت تعليمي في المنزل أو عن طريق التعلم عن بعد.
في طفولتي، إذن، لم تتح لي الفرصة كسائر الاطفال الآخرين في اكتساب مهارة الاجابة على الاسئلة في بيئة صفية طبيعية أو أن أدرك وامارس مفهوم التنافس الصفي مع الاقران، في طفولتي لم أدرك أيضا انه يجب أن أدخل في سباق مع طلبة الصف كي أكون أول من يجيب عن سؤال معين، كل ذلك لأنه لم يسبق لي أن وجدت نفسي في بيئة صفية مدرسية، وعندما كانت تتاح لي أحيانا فرصة التعلم في بيئة صفية، كنت فقط أجد نفسي بين مجموعة صغيرة من الأطفال من ذوي الاعاقة وليس في بيئة صفية طبيعية. واثناء فترة مكوثي في المشفى في اسبانيا، كنا نخرج كل اسبوع من المشفى إلى الكنيسة للتعلم، وهناك كنت أنا آخر من يتحصل على شيء من الحلوى أو الهدايا التي كانوا يوزعونها علينا هناك، السبب هو أنني لم أكن أرغب بالدخول في صراع مع الآخرين او التسابق معهم من أجل تلك الهدايا، بل ولم أكن أكترث بها أيضا.
وعندما رجعت الى سوريا، تفاجأت ايضا بما شاهدته من أنماط سلوك مماثلة كالتنافس والتسابق ما بين الاطفال، فلا زلت أذكر عندما قام ابناء عمي في سوريا بأعمال سيئة واتهموني بأنني أنا من قمت بها أمام الكبار، لم استطع ان ادافع عن نفسي او حتى ان اقول انني لست من قام بتلك الافعال ولهذا فقد كنت أنال العقاب على افعالهم، لم تكن شخصيتي متمرسة على مواجهة مثل هذه المواقف خاصة وأنني قضيت معظم سنوات تربيتي وطفولتي في المشفى، وحتى يومنا هذا لا يمكنني ان اسامح عمتي التي بدأت بالصراخ في وجهي دون ان تتحقق ممن هو المذنب فعلا، وسريعا ما اكتشفت ايضا أنه لا بد دائما من وجود شكل من اشكال التنافس بين ابناء وبنات عمي، على سبيل المثال اثناء تدافعهم وتسابقهم على من سيكون اول من يحصل على شيء من الحلوى او هدية او إكرامية معينة، الا انني شخصيا لم اكن مغرما بالتنافس على تلك الاشياء وبالتالي كنت آخر من يحصل عليها هناك ايضا، ومع سلبيات تلك المواقف بالنسبة لي الا انه كانت هناك ايضا عناصر ايجابية، فمن الناحية السلبية لم يكن يتبقى لي شيء من الحلوى او من تلك الهدايا بعد ان يتصارع عليها الجميع قبل ان اتمكن حتى من الوصول الى مكان توزيعها، ومن الناحية الايجابية كانت تلك الهدايا تصلني احيانا بأريحية حيث انا، بسب انني كنت مسالمة وهادئة ولم اكن اشارك في ذلك التدافع وتلك المجابهات، وفي كلتا الحالتين لم يكن همي الدخول في تلك المجابهات خاصة وأنه لم يكن همي الحصول على تلك الهدايا.
وعندما كبرت واصبحت شابة استمر سلوكي على هذ الحال، ففي عام 2000 كان هناك برنامج تلفزيوني يسمى "من سيربح المليون؟" وبرنامج آخر مشابه يسمى "اربح وزنك ذهب" على محطة mbc الفضائية، لم أطمح إلى التقديم والمشاركة في برنامج "من سيربح المليون؟" علما مني انه لا يمكنني أن اكون أسرع من يجيب عن السؤال المطروح الذي كان من متطلبات اختيار الشخص للمشاركة في البرنامج، لكني تقدمت للمشاركة في برنامج "اربح وزنك ذهب" نظرا لأن عملية اختيار المشاركين في ذلك البرنامج كانت تتم عشوائيا عن طريق الحاسوب وفعلا تم اختياري للمشاركة في ذلك البرنامج.
والى يومنا هذا، لا زال هناك شعور بداخلي أن نمط سلوكي وشخصيتي لن تتغير، ولكنه من دواعي الاحباط بالنسبة لي احيانا أن لا تنسجم تلك الانماط السلوكية مع محيط العمل، فعندما اكون في مركز قيادي مثلا فاني اقوم بذلك الدور بنجاح، ولكني عندما اعمل كعضو في فريق حيث التنافس بين الزملاء فإني غالبا ما التزم الصمت، الا ان ذلك ليس بالشيء السهل، فأحيانا ما يتم نسياني أو تجاهلي في الفريق واحيانا اخرى يتم تسجيل الفضل للآخرين على أفكار قمت انا بطرحها وتقديمها. ومع ان ذلك لا يبدو بتلك الخطورة إلا أنه غالبا ما يحدث اثناء حياتي العملية كوني العنصر الصامت في الفريق، ولكن في الوقت ذاته ومن الناحية الايجابية فإن الصمت والابتعاد عن معترك المنافسات الاجتماعية التي يلعبها الناس ويركضون وراءها يعني أيضا أنني عندما أتفوه بالكلام فإن ما اقوله يلقى دائما احتراما وأذانا صاغية من قبل الجميع.
وفي اجتماعات العمل، حتى وإن لم أتكلم مدة أشهر أو ألتزم الصمت في اجتماع يستمر مدة أيام فإنني أدرك جيدا أنه عندما أتكلم وأبدي رأيا أو أطرح فكرة فإنني أتمكن فعلا من خلق التسهيل وإحداث التغيير، ولكن ذلك لا يلغي شعوي بالإحباط تجاه عدم قدرتي على رفع يدي للمباشرة بالكلام حتى في وقتنا هذا بعيدا عن الطفولة. في المقابل، غالبا ما أشعر في عملي كناشطة حقوقية أنني قادرة بما فيه الكفاية على محاربة العالم بأسره إذا ما اقتضى الأمر، ولكنه عندما يتعلق الامر بشؤون حياتي الخاصة فإنه لسبب أو لآخر هناك شيء بداخلي يجعلني لست من الجرأة بما فيه الكفاية للقيام بذلك.
ولا زلت أصارع كي أدافع عن نفسي عندما يتعلق الأمر بشؤوني الشخصية..!
كم أتمنى في يومنا هذا لو أنه كان بإمكاني أن أتلقى دعما أكبر أثناء طفولتي كي أنمو وأتطور كسائر الأطفال الآخرين، وكي أعيش واقع حياة الاطفال وواقع تنشئتهم الطبيعية بعيدا عن ذلك "الغلاف" الذي عزلني عنهم وعن واقع العيش. كم أتمنى أيضا لو كان بالإمكان خلق منظومة معينة للأشخاص ذوي الاعاقة ولكل من حكمت عليه الظروف للعيش في أوضاع حياتية صعبة تمكنهم من تعلم واكتساب تلك المهارات الحياتية الضرورية لمواجهة واقع حياتهم بطريقة أفضل.
نحن غالبا ما نتحدث عن الدمج والإدماج ولكن حديثنا في هذا المجال لا يتجاوز في معناه القدرة على الحضور والتواجد "الجسماني" في بيئة اجتماعية معينة، ومن وجهة نظري فإن مجرد توفير مكان لنا "للجلوس على الطاولة" هو ليس إلا مصدر من مصادر الاحباط ذا ما كان التعامل معنا مبنيا على أننا أشخاص مساكين ومبنيا على توقعات الآخرين منا بالتزام الصمت والتعبير عن الشكر الامتنان لمجرد الحضور.
لست ممن يطمح للوصول إلى ما يسمى بالمنافسات الاجتماعية، فهي على المستوى العالمي تبقى المسؤولة عن العديد من المآسي في هذا العصر. وبالطبع فإنه لو أننا في عالم مثالي لكان الأجدر بمجتمعاتنا أن تعطي قيمة اكبر لتلك الامكانيات والقدرات التي يمكن للأشخاص ذوي الإعاقة توظيفها والمساهمة بها في مجتمعاتهم، لكننا لا زلنا بعيدين كل البعد عن ذلك العالم المثالي ولا زالت القوة الدافعة تجاه التغيير منوطة بنا كي تأتي من داخلنا، فعلينا أن نثبت أنفسنا ونتعلم كيف نقول كلمتنا وندعم كل منا الآخر في رحلة حياتنا، كما أن علينا أن نناضل من أجل مكان لنا تحت الشمس..!
جافيا علي
Chavia Ali
Comments