تتجه انظار العالم حاليا الى عملية الانتخابات التي تجري في الولايات المتحدة الامريكية على اعتبار انه سيكون لها آثار واسعة النطاق على المستوى العالمي، ومع ذلك فان الحدث الاهم في رأيي والذي سيكون له الاثر الاكبر في مجال حقوق الانسان هو تعيين Amy Coney Barrett في المحكمة العليا.
وباعتباري مدافعة نشطة عن حقوق الانسان فإنني قمت على مدار السنوات بالتأكيد على اهمية التمثيل، فمن المهم جدا العمل على تحقيق التمثيل في مجال حقوق الانسان سواء كنا نتحدث عن حقوق المرأة او حقوق الأطفال او حقوق ذوي الإعاقة او حقوق اللاجئين او كنا نتحدث عن حقوق الأقليات الدينية أو العرقية أو عن نواحي مستجدة مثل حقوق الناس ذوي الاتجاهات الجنسية المختلفة أو حقوق كبار السن أو حتى أمور تتعلق بالعدالة ما بين الاجيال المختلفة أو واجباتنا تجاه البيئة، ففي مجتمعات تقوم بتوثيق القانون وتحليله وتطبيقه وفي مجتمعات تقوم بصنع قرارات تتعلق بصالح المواطنين وحياتهم وكرامتهم فإن من المهم جدا إتاحة الفرص الحقيقية أمام هؤلاء الناس ليس فقط كي تسمع أصواتهم بل أيضا كي تؤخذ وجهات نظرهم وخبراتهم وكفاءاتهم بعين الاعتبار خاصة إذا ما كانوا هم المتأثرين بشكل مباشر بتلك القرارات.
مع ذلك فإن التمثيل وحده ليس كافيا لخلق التغيير الفاعل، فهناك الحالات الكثيرة التي يكون فيها التمثيل والمشورة مجرد إجراءات شكلية، فمثلا القيام بتعيين ممثل واحد للتحدث باسم جماعات واسعة ومختلفة لا يمكن له ان يغطي حاجات هذه المجتمعات البشرية بتعقيداتها، وفي هذه الحالات، التي يجد فيها الممثل نفسه في وضع يفرض عليه التحدث بالنيابة عن جماعات متعددة ومتضاربة المصالح، تصبح شخصية الممثل ومدى استقامته في أداء عمله مؤثرة على مصالح تلك الجماعات جميعها، وبالتالي فإن أية فضيحة أو نقطة ضعف لديه ستؤثر سلبا على فرص تلك الجماعات التي من المفترض ان يمثلها. كذلك فإنه من الممكن أن يتعرض الممثل الذي ينتمي الى جماعات مهمشة او مستضعفة إلى ضغوطات من جماعات أقوى وذات مصالح اخرى لدعم قرارات ليس من شأنها حماية حقوق الانسان ، وفي مثل هذه الحالة فإن على الأرجح أن تعاني هذه الجماعات المستضعفة من عدم إمكانية تحصلها على المعلومات أو الموارد التي يمكن ان تسمح لها بالاحتجاج على عملية استغلال اصواتها.
اضافة الى ذلك فانه يتم التلاعب بممثلي الجماعات المختلفة الذين يتحدثون عن حقوقها المختلفة للتخاصم فيما بينهم بدلا من التوافق على جدول اعمال مشترك لحقوق الانسان يخدم مصالح الجميع، فهم يقومون باختيار قضايا معينة تتعلق بحقوق مجتمع محدد ويتجاهلون قضايا اخرى أو يستثنون مجتمعات اخرى من الحقوق نفسها.
يعد تعيين Amy Coney Barrett في هيئة المحكمة العليا مثال صارخ على محددات التمثيل وعلى مخاطر الاعتماد على مستوى استقامة عدد قليل من الافراد، فقد تم تعيينها بدلا من Ruth Bader Ginsberg الراحلة كواحدة من السيدات الثلاثة في هذه الهيئة،
لقد كانت Ruth Bader Ginsberg شخصية مؤثرة بشكل ملحوظ في القانون الامريكي وكانت نشطة في مجال حقوق المرأة ومحاربة التمييز، فقد شاركت في تأسيس "مشروع حقوق المرأة في اتحاد الحريات المدنية الأمريكي" عام 1972، وبصفتها محامية وقاضية في المحكمة العليا فقد كانت شريكة في سن قوانين هامة تحارب التمييز على اساس الجنس سواء كان ضد المرأة أو ضد الرجل، كما انها قررت ايضا على أن "قانون الامريكان ذوي الاعاقة" يجب ان يشمل الامراض العقلية، وأن بإمكان السكان تقديم الشكاوى ضد مصادر التلوث الصناعي.
صحيح ان Amy Coney Barrett امرأة كما هو حال Ruth Bader Ginsberg لكنها تمثل مصالح مختلفة تماما عنها، فهي تنتمي الى طائفة كاثوليكية اصولية تسمى The People of Praise"" حيث يلتزم اعضاءها بإطاعة ازواجهن وبقرارات زعيم الطائفة، وهي مشاركة نشطة في معارضة حقوق ذوي الاتجاهات الجنسية المختلفة وقضايا ضبط النسل. كان والدها يعمل لدى شركة "Shell" ومع انه تمت تنحيتها من المشاركة في دعاوى تخص تلك الشركة، إلا انها شاركت في دعاوى تخص الجماعة الضاغطة "صناعة البترول الامريكية" التي كان والدها رئيسا لها. كما رفضت Amy Coney Barrett الالتزام بالتنحي في دعاوى مستقبلية تخص صناعة الوقود او تخص نزاعات اخرى ذات اهمية.
تحتل المحكمة العليا مكانة خاصة وذلك نظرا لخصوصية تركيبة نظام القضاء الامريكي والمؤسسات الحاكمة، فالنظام القضائي مبني على الاولويات وبذلك فان التفسير والممارسة التي تحددها القوانين لها من الثقل ما يفوق اهمية دعاوى الافراد. كذلك فإنه يتم تعيين قضاة المحكمة العليا لمدى الحياة، الامر الذي يفترض منه المساعدة في تحقيق التوازن لممارسة السلطة ومنع ممارسة الضغوطات على القضاة. ورغم أنه من المفترض أن لا يخضع القضاة للسياسة الحزبية إلا أن التعيينات ووضع القوانين هي عملية سياسية بحتة.
وفي بعض الحالات الاخرى فإن التعيينات (وكذلك التمثيل بشكل عام) تتبع قوى محركة مختلفة ولها نواتج اخرى. ولكن مع ذلك هناك بعض الدروس التي يمكن تعلمها من عملية تعيين Amy Coney Barrett.
إحدى هذه الدروس هي أن المسائل المتعلقة بتقصي السجلات الشخصية والاستقامة الشخصية للفرد هي على ما يبدو اكثر اهمية من مجرد مسألة "اهوية الشخص". لقد كانت Ruth Bader Ginsberg امرأة وكانت يهودية، وهذا ما أدى بها الى مكافحة التمييز باستمرار بكل اشكاله، أما Amy Coney Barrett فهي امرأة كاثوليكية ويظهر سجلها المهني على أنها متورطة في قيادة سياسات متطرفة ومناهضة لحقوق الانسان.
أما الدرس الثاني الذي يمكن تعلمه من تعيين Amy Coney Barrett فهو أهمية حقوق الانسان واهمية النقاشات في هذا الأمر كمنبر للتفكير والتأمل وكذلك للعمل جماعيا على تطوير "بوصلة" أو توجه أخلاقي مشترك في زمن سريع التغير، وهذا المنبر يجب أن لا يقتصر على جماعات ذات مصالح خاصة ولا على جداول اعمال او سياسات فردية ويجب أن لا يستغل بكل سهولة. ومن المهم أن ندرك أن مسألة حقوق الانسان ليست قانونا منقوشا لا يمكن تغييره، إنما هي جسم واحد من المبادئ المتطورة باستمرار، وبينما هناك اتفاقية تنص على أن الحقوق المكتسبة الموجودة حاليا لا يمكن الغائها، إلا أن هناك أيضا إرادة وتصميم على المضي والتقدم بها.، ونحن اليوم وأكثر من أي وقت مضى نشهد ولادات التكنولوجيات الجديدة والمنصات الجيوسياسية المتغيرة والتحديات الطارئة كحالات الانقراض الجماعي والتغير المناخي فإنه لذلك من المهم جدا أن نحشد القوى ونعمل معا للاستثمار في منابر التفكير والنقاش فيما يتعلق بحقوق الانسان والافادات الاخلاقية والمبادئ الجوهرية التي يجب ان تحكم قراراتنا، فالتمثيل مهم حتما لضمان حقوق الانسان لكنه كذلك فقط ما دام مقترنا مع الانتماء والالتزام بهذه الحقوق وما دام يقوده النقاش الفاعل.
جافيا علي
Chavia Ali
Comments