لم يسبق لي ان نشرت شيئا إكراما للأم في يومها وقد تتساءلون عن سبب ذلك، وفي الحقيقة لم يكن سبب ذلك عدم الحس بالتقدير والحب العميق لأمي، فأمي من الحنان والرعاية أكثر مما يمكن أن يتمنى أحد، لكنني لطالما أحسست بالألم والأسى الذي يسيطر في هذا اليوم على كل من فقدوا أمهاتهم أو لم يشأ لهم القدر أن يعرفون امهاتهم أبدا. بالنسبة لهؤلاء الناس فإن احتفالات الآخرين في عيد أمهاتهم هي مزيد من الآلام التي أكثر ما تشبه فرك الملح في جرح مفتوح..!
وهناك من الأمهات الكثر اللواتي فقدن أبنائهن واللواتي يذكرهن يوم الأم بالتهاني والتحيات التي يعرفن أنهن لن يسمعنها أبدا من أبنائهن. وهناك من النساء من تتمنى من عميق قلبها أن نصبح أمّا لكنها لا تستطيع الإنجاب، ولهذا السبب بالذات تكثر حالات الطلاق في منطقة بلاد الشرق الأوسط أو الزواج من امرأة أخرى من أجل إنجاب الأبناء، وهناك من النساء من لا يرغبن بالإنجاب في مجتمع لا يقدر قيمة المرأة والأمومة ولا يعاملها على قدم المساواة مع الرجل، وبالنسبة للكثير من النساء فإن الأمومة ليست مصدرا للفرح والابتهاج بل مصدرا للألم والمعاناة كما هو الحال عند التعرض للاغتصاب أو جراء الزواج القهري أو الطلاق أو التعرض للتهديد والضغوطات من الأهالي مما يؤدي إلى حرمان المرأة من دراستها أو عدم تحقيقها لأحلامها وطموحاتها. وهناك أيضا عدد متزايد من النساء من لا يسمح لهن الضمير أن يكن المسؤولات عن إنجاب طفل في ظل هذا الوضع العالمي البائس وغير المستقر، ولهذا كله فإنني أرى على الأقل أنه من واجبي أن لا أضيف إلى معاناة وآلام الأطفال اليتامى في هذا العالم وأن لا أضيف أيضا إلى ذلك الفيض من الأمهات اللواتي فقدن أبنائهن في هذا العالم البائس.
ومع ذلك فإن هذا العام يبدو مختلفا عن الأعوام الأخرى، ولربما السبب هو حالة الوباء المنتشرة التي تذكرني يوميا بهشاشة هذه الحياة التي نعيش . لذلك فإنني في هذا العام أود التعبير وبشكل صريح عن امتناني لأمي، رمز التفاني ورمز الشجاعة والإخلاص، فالأمومة ليست بالأمر السهل ولكن الأصعب أن تكوني أما لابنة من ذوات الإعاقة مما يضيف أعباءً وتحديات إضافية أخرى، ففي بلدان الشرق الأوسط وربما في مناطق كثيرة أخرى من هذا العالم، هناك ما يمكن ان يسمى بوصمة العار واللوم الموجه من العائلة إلى أم الشخص من ذوي الإعاقة، ولكن لحسن الحظ لم يكن ذلك هو الأمر بالنسبة لعائلتي فقد كان أبي إلى جانب أمي دائما من هذه الناحية إلا أن ذلك لا زال يخلق الشعور بالوحدة والشعور بالاختلاف والحرج بين أفراد المجتمع، فبعضهم من كان يظهر الشفقة فيقول لأمي "ألله يعينك"، ونادرا ما كان بعضهم يمد يده للمساعدة أو يدرك أنه يجب العمل معا للتغيير في المجتمع كي لا تصبح الإعاقة عبئا ثقيلا على احد.
ورغم الدعم الكبير الذي كان يقدمه لي ابي إلا أن أمي تحملت العبء الأكبر، فهي من كانت تحملني وتتنقل بي صعودا ونزولا عن الأدراج الكثيرة في المباني غير الموائمة إلى أن أصبح وزني يقارب وزنها..! لذلك لا يسعني هنا إلا أن أقول لك أيتها الأم الغالية أنني ومن خلالك أود في هذا اليوم أن أحتفل وأهنئ كل أم لشخص من ذوي الإعاقة التي تسعى كي تحقق المستحيل كل يوم بقوتها وإرادتها الصلبة وشجاعتها الفريدة دون أدنى مستوى من التقدير والدعم من المجتمع المحيط. كل الحياة لكل أم تربي أبنائها وتنشئهم على الثقة بالنفس وتكتشف مواهبهم وقدراتهم المتميزة كي تراهم في يوم ما يحلقون بأنفسهم ويحققون احلامهم ويشقون طريقهم في هذه الحياة.
وفي هذا اليوم أود أيضا أن أعبر عن امتناني لأمي الثانية ألام الاسبانية، وهي زوجة عمي التي قامت على رعايتي طيلة تلك السنوات الطويلة التي قضيتها في اسبانيا اثناء تلقي العلاج والخضوع لعمليات جراحية. لذلك أقول لك أيتها الأم الغالية أنك بجهودك الكثيرة قد صنعت مني ما أنا عليه اليوم ولولا رعايتك وحنانك لما كان بوسعي أن أصمد أمام تلك الفترة العصيبة من حياتي.
ولنتذكر في هذا اليوم أن النساء ذوات الإعاقة هن أيضا أمهات يقمن على رعاية أبنائهن في ظروف صعبة، فبعضهن من يعشن تحت وطأة الخوف مما يقوم به بعض الاقارب أو بعض مؤسسات الخدمات الاجتماعية من حرمانهن من أطفالهن تحت ذريعة العمل من اجل صالح الطفل، وفي النهاية لنتذكر أيضا تلك النساء الكثر من ذوات الإعاقة في هذا العالم اللواتي باستطاعتهنّ أن يكنّ أمهات بل ويحلمن بالأمومة إلا أنّ المجتمع ينكر عليهنّ حق الزواج، والمؤسف أن السبب ليس راجعا لعدم وجود القدرة الجسمية أو العقلية أو العاطفية لدى هؤلاء النساء كي يصبحن أمهات بل لمجرد النظرة الاجتماعية إلى زواج ذات الإعاقة التي تشوبها وصمة العار.
إذن لننتهز هذه المناسبة لحشد الجهود من أجل يوم يأتي فيه "يوم الأم" ليجمع ما بين الناس لا ليفرقهم، نعم لا يمكننا تغيير الماضي لكنّ هناك الملايين من الأطفال وغير الاطفال الذين هم بحاجة إلى حب وحنان امهاتهم، لذلك فإنه إن لم يكن بمقدورنا أن نصبح امهات فإنه بمقدورنا أن نتبنّى أو نرعى يتيما مثلا، أو أن نعمل على تشجيع هؤلاء الأطفال ورفع معنوياتهم كما أنه بمقدورنا أيضا أن نقدم الدعم لجيراننا الذين يكافحون بمفردهم تحت تلك الظروف والمسؤوليات، وسواءً أكنا أفراداً أو جماعات لنتذكر في كل يوم أن علينا العمل والمبادرة كي نجعل من هذا العالم مكانا أرحم وأحنّ ويتسع الجميع.
جافيا علي
Comments