(في ذكرى وفاة والدي)
يُصادف اليوم التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) وقد مضى تسع سنوات تماما منذ أن رأيت فيها والدي لآخر مرة، وفي العاشر من تشرين الثاني 2011 فتحت دفتر مذكراتي وكتبت "اليوم هو الأول الذي تشرق فيه الشمس في غيابك يا أبي".
صحيح ان هذه مجرد مقالة في مدونة لكنها تتحدث عن إنسان يستحق كتابا وأكثر.. كان رمزا للشجاعة والشهامة وكان يتمتع بالعقلية الاكثر انفتاحا لأعظم رجل قابلته في حياتي، فلا اذكر ان هناك شيئا لم اشاركه اياه منذ ان كنت طفلة صغيرة كما لا اذكر شيئا لم يكن ولو مرة واحدة على استعداد للنظر فيه وتفهمه.. كان أبي ذا رؤية واعية.. ومع انه كان بإمكانه الاستخفاف والسخرية بما كنت اشاركه إياه إلا أنه كان محبا وحنونا، كان ألاب الراعي، وكان يتمتع بقسط غير عادي من روح الفكاهة والظرافة.. لا زلت أذكر بل ولن أنسى كيف كان يضفي جوا من المرح والنكات حتى ولو في أسوأ الظروف، ولربما هذا هو أكثر ما افتقده الآن ببالغ الاسى والحزن.
في هذا اليوم، لن أتحدث هنا عن الجهود التي بذلها أبي من أجلي في سبيل علاجي وكي يراني أمشي بعيدا عن الكرسي المتحرك، وهو حلمه الذي لم يتحقق أبدا، وهنا لن أتحدث أيضا عن ما بذله من جهود وقدمه من الدعم كي يمكنني من تكملة دراستي، لكنني سأتحدث عن أمر واحد وهو كيف استطاع أبي أن يرسم طريقي المهني كحقوقية و ناشطة في مجال حقوق الانسان.
فبعد ان بدأت العمل في مجال حقوق الانسان وحقوق الاشخاص ذوي الاعاقة بفترة وجيزة حصلت على عرض لمركز وظيفي مع حزب سياسي في سوريا. وفي ذلك الوقت، كنت في مستهل عمري وكانت فكرة ايجاد من يدعمني للحصول على عمل في مركز نفوذ كهذا أمرا مغريا ومثيرا، أخبرت والدي بذلك العرض فسألني "حسنا، وماذا كانت إجابتك لهم؟" فأخبرته "لم أخبرهم بموافقتي بعد، لكني أعتقد أنني سأقبل العرض.. ففي اعتقادي أن ذلك يسعدك، فانت تعمل في مجال غارق في الشأن السياسي منذ سنوات عديدة..!" فقال والدي "نعم، صحيح انني قضيت معظم سنوات عمري وانا اعمل في السياسة وعاشرت عدة احزاب سياسية، وأنا لست نادما على ذلك لأنني أؤمن ايمانا تاما بكل القضايا التي أعمل من اجلها، ولكنك أنت لديك ما هو اكثر مني بكثير لتقديمه فلا تضيعين ذلك..! حقوق الانسان تخص الجميع ولا تقتصر فقط على جماعة عرقية او حزب سياسي..!" وعليه، قمت برفض العرض وواصلت عملي باستقلالية بعيدة عن اي دعم سياسي من أحد، أعرف أن الطريق صعب لكنني أعرف أيضا أن والدي كان محقا، وها أنا على هذه الطريق إلى هذا اليوم.
مرض والدي وبعد ان قام الاطباء بتشخيص الحالة، تم إدخاله إلى غرفة العمليات الجراحية على اعتقادهم أن ذلك السرطان لم يتفشى في جسده، وأن بوسعهم معالجته بإزالة جزء من رئته لكنهم اكتشفوا بعد شق صدره أنه ليس هناك ما يمكن فعله لإنقاذ حياته، فأغلقوا جرحه دون المساس بشيء، وعندما أفاق أبي من التخدير، لم يتجرأ احد من الاطباء على إخباره بالحقيقة، فقد اخبروه أنهم اجروا العملية وأن الأمر سيستغرق وقتا كي يرى النتائج، لكن أبي أدرك أنهم كانوا فقط يحاولون إخفاء الحقائق، فسألني وهو يبتسم، "ما الذي حدث بالضبط؟ هل الأمر تحت السيطرة؟ هل لي أن أصدق ما يقولون؟!" كانت تعابير وجهه تشبه المتلهف لسماع آخر خبر في حياته.! فأجبته قائلةً، "أبي.. ما سيكون لا بد ان يكون! استمتع بسيجارتك الآن..!" قبل دخولي إلى غرفة أبي، كنت أبكي بكاءً شديداً ولكني عندما تحدثت معه حاولت جاهدةً ان أبتسم وأضفي عليه جو من المرح كما كان هو يفعل معي..! والآن لن أعرف أبدا فيما إذا كان أبي يعلم حينئذ ما كنت أشعر به وأخبئه خلف وجهي البشوش..!
عاش ابي مع السرطان مدة عام تقريبا، ومنذ اليوم الاول الذي تم فيه تشخيص الحالة الى يوم وفاته وأنا بجواره كل يوم، فقد أحسست أن من مسؤوليتي وواجبي أن أقدم له الدعم في هذه الفترة تماما كما كان هو يقدم ليَ الدعم في وقت الشدائد حيث كنت بحاجته، كان يحتاج ابي إليّ اكثر ما يكون اثناء الليل، لم يستطع النوم، كان يتألم ويصعب عليه التنفس، ينام الجميع وهو وحده، لا ينام..! وفي ساعات الليل الطويلة، عندما كان المنزل هادئا وساكنا، كنت أدرك أن والدي بحاجة إلى من يسليه ويخفف عنه فقررت أن أظل بجواره في تلك الفترة متظاهرةً بأنني لم أكن أستطيع النوم مثله أو أنّ لدي ما انجزه على جهاز الكمبيوتر، وكان لهذه الفترات أن جعلتني أعرف ما لم أتمكن من معرفته عن والدي من قبل، فقد أخبرني عن كل ما حصل في حياته من قصص وأسرار خاصة، كما قمت أنا أيضا بمشاركته ما لدي من قصص وأسرار، لقد حرصت كل الحرص على محاولة تسليته وتنسيته حالته المرضية فكنت أناقش معه كل ليلة موضوعا من المواضيع التي اختارها أو مجالا من المجالات التي لا يعرف عنها ويمكن أن يستفيد منها، لم ندع شيئا لم نتحدث عنه، كان من تلك المواضيع ما يهم مستقبل بلدنا أو مستقبل كوكبنا، تحدثنا عن الربيع العربي الذي كان حينها في بدايات حلوله إلى سوريا، أظهر أبي قلقه الشديد تجاه مستقبل بلدنا وتجاه ما يمكن أن يصيبني جراء ذلك. فقد كنت ناشطة وحقوقية مشهورة على المستوى الوطني في حينها، الأمر الذي حمل ابي على القلق من امكانية تلاعب الأحزاب السياسية هناك وجرّي إلى النزاع.
وفي تلك الفترة التي كان فيها والدي لا زال حياً، لم يكن يهمني موضوع البحث عن وظيفة، فقد أخبرني بأنه سيترك لي وراءه بعضا من المال، كما أوصاني بأن أتقدم لوظيفة للعمل لدى هيئة الامم المتحدة في حال اقتضت الظروف للعمل من اجل كسب رزقي، وبأن لا أسمح لأية أجندا سياسية أن تستغل إسمي، كما ذكرني والدي بأنني عملت جاهدةً كي أنال الاحترام وأوصاني أن أمارس عملي بكل استقلالية ودون تحيز أو تمييز، وقال لي "إن علمك ومعرفتك ومصداقية شخصيتك ستظل هي ثروتك الثمينة في أي عمل يمكن أن تمارسينه".
كانت بداية المرض في شهر آذار، لكنه أمهلنا ذلك المرض كي نرى الربيع معا وكذلك الصيف والخريف، ولكن أتت تلك الليلة.. الليلة الأخيرة..!
وقبل يومين فقط من تلك الليلة الاخيرة، كنا قد احتفلنا بعيد الأضحى، تسعة من الأقارب جاؤوا في ذلك اليوم لمؤانسة أبي طيلة نهار العيد، ولم يخلو البيت من الزوار في كل يوم أيضا من أيام العيد، وفي تلك الليلة كنا نشعر أنا وأبي بالتعب والارهاق، كان أبي قد تناول أدوية كثيرة، فلم يتمكن من الجلوس والمناقشة، بل طلب مني التحدث كي يستمع لحديثي، كان يتألم جدا في تلك الليلة، ورغم أنني لا أذكر ما تحدثت عنه في تلك الليلة، إلا أنني لا زلت أذكر أنني قلت بيني وبين نفسي أن أبي يحتاج الآن إلى علاج سحري وإلا سينتهي أجله قريباً وستنتهي كل معاناته.
وكعادتي، كنت أذهب للنوم فقط عندما يطلع الصباح ويبزغ نور النهار، فعندها يكون باقي أفراد الأسرة قد أفاقوا من نومهم للحلوس بجانبه، وفي صباح تلك الليلة التي كنت فيها نائمة منذ ساعتين فقط،، فجأة رأيت أبي يدخل إلى غرفتي ويقول، "لقد انتهى أحلي!" فسألته، " إلى أين ستذهب يا أبي؟! ومن سمح لك أن تذهب أصلا؟! فلا زالت أمامنا قصصا كثيرة لم ننهيها..!" ومع أنني كنت أمازحه بأقوالي هذه، إلا أنني صدقته فيما قال وكنت متأكدة أنه لن يتمكن من المقاومة إلى اليوم التالي، وفي ذلك اليوم عند الساعة التاسعة مساءً، لفظ أبي أنفاسه الأخيرة...!
أمضيت ساعات تلك الليلة الطويلة جالسة بجواره..!
عند طلوع الشمس من صباح اليوم التالي، جاء الناس للقيام بمراسم الدفن، لقد غادر أبي البيت وبقيت أنا وحدي هناك! فكتبت له رسالةً طويلةً أخبرته فيها عن كل تلك الأشياء التي لم يكن بمقدوري أخباره بها، أخبرته انني كنت أمازحه وكم كنت أتظاهر بالشجاعة كي اخفف عنه، وكم كان مؤلما لي عندما عرفت أنه يعاني من ذلك المرض العضال، وعندما عرفت كم كانت معاناته.
لم أتمكن من النوم في تلك الليلة مع أن الجميع طلبوا مني ذلك قائلين أن أبي لم يعد يحتاج إليّ الليلة، فقلت لهم، "لكنني أنا أحتاج إليه الآن..!" ومنذ ذلك الحين وأنا أعاني من مشكلات في النوم، كنت أعتقد أن مثل هذه المشكلات ستزول مع مرور الوقت إلا أن ألم فراقه لم يفارقني ولا زال يعتصر فؤادي كل يوم. ومع ذلك كله، أشعر أن أبي لا زال معي في كل يوم، في كل ذكرى، في كل قصة، وفي كل زاوية من زوايا البيت..! لا زلت أخبره بكل ما يجري، لا زلت أستشيره وأطلب نصائحه..!
قبل بضعة أيام، رأيته في حلمي يقف أمامي، كنت أجلس على كرسيي المتحرك اليدووي الذي كنت استخدمه قبل الكرسي الكهربائي الذي استخدمه حالياً، وكنت أشعر بالاكتئاب والحزن..، فسألني ابي عما جرى وعن سبب كآبتي وحزني، فأخبرته بتلك الإحباطات اليومية والمتاعب التي كانت تثقل على كاهلي..، فقال لي أبي "لا تقلقي، وخذي الأمور بكل بساطة وأريحية..! وقال لي أيضا " أنت بحاجة إلى إجازة للراحة وإلى أن تخرجي وترفهي عن نفسك." ثم أخرج من جيبه بضعة بالونات ملونة وبدأ ينفخها، ثم ربطها بكرسيي المتحرك، فسألته عما كان يفعل، لكني وجدت حينئذ أنني أطفو على كرسيي المتحرك في هواء الغرفة، ثم إلى خارج الغرفة ثم بدأت أعلو شيئا فشيئا إلى السماء مع البالونات وأبي يتبعني ويعلو خلفي تماماً، إلى ان أصبحنا نحلق عاليا فوق السحاب، وأبي يتبعني ويقول، "لا تقلقي، سيكون الأمر على ما يرام..، ما عليك سوى أن تمتعي نفسك..!"
عندما استيقظت قلت لنفسي، "وراء كل فتاة تحلق عاليا في السماء "مع البالونات" أبٌ عظيم...!"
جافيا علي
Chavia Ali
Comments