(تكريما لصديقتي لوسي)
لقد قضيت فترات طويلة من طفولتي أتلقى العلاج في مشفى في العاصمة الإسبانية مدريد, منها ما كانت تمتد لأشهر طويلة ومنها ما كانت تصل إلى سنة كاملة دون مغادرة المشفى, وكطفلة اجتماعية بطبعها ويميزها حب التعرف والفضول كنت لطالما أبحث عن الأصدقاء بل وأنتهز كل الفرص للتعرف على أناس جدد والحديث معهم وكان الأطباء في المشفى يشجعونني على ذلك ويستدعونني دائما إذا ما احتاج أحد الأطفال المرضى إلى من يؤانسهم أو يقدم لهم شيئا من الدعم المعنوي ولأنني كنت أتكلم ثلاث لغات في ذلك الحين, ما جعل الأمر سهلا إلى حد ما بالنسبة لي لصنع الكثير من الأصدقاء.
بمحاذاة غرفتي في ذلك المشفى كانت هناك غرفة أخرى استرعت اهتمامي بشكل خاص, خاصة وأنه لم يسبق لي أن دخلتها من قبل ولم يسبق أيضا أن رأيت أحدا يخرج منها, لكنني وفي عدة مناسبات كنت أسمع أصوات لشخص ما يتضور من الألم هناك. وذات يوم, عندما كنت أبلغ التسع سنوات, فتح الباب فجأة, وما كان مني حينها سوى أن دخلت الغرفة, لا أذكر صدقاً إن ما كان قد استدعاني للدخول هو فضولي أو هو رغبتي في مساعدة ذلك المتألم ! دخلت.. فرأيت سيدة كبيرة في السن، في غاية التعب والحزن والألم، مستلقية على السرير وموصولة بإبر الحقن الوريدي والأجهزة الطبية الأخرى.. سلمت عليها .., ورغم مفاجئتها بدخولي كطفلة إلى غرفتها, إلا أنها ردت التحية, محاولة إخفاء ألمها.. أخبرتني أن اسمها "لوسي", فسألتها إن كانت تحتاج إلى أي مساعدة مني كما سالتها عن سبب توجعها, فأخبرتني أنها تعاني من الألم الشديد وأن هذا الألم سيزول قريبا! لم أدرك حينها ما كانت تعنيه عندما قالت هذه العبارة...!
سألتها إذا ما كانت ترغب بمكوثي معها فأخبرتني أنها مسرورة بوجودي.. ومع أنني لم أكن على علم بما يمكن أن أقدم لها اقترحت لوسي أن أقرا كتابا على مسمعها, فهرولت مسرعا نحو غرفتي المحاذية وأحضرت إحدى الكتب المسلية التي كانت لديّ وبدأت أقرأ لها.. شجعتني لوسي بكلامها اللطيف فاعتدت أن أزورها في غرفتها كل يوم.. بل أصبح ذلك جزءا من روتيني اليومي، وكانت تبدو لوسي سعيدةً بزياراتي، أخبرتني الكثير عن أسرتها وحياتها الشخصية وأنه ليس هناك أحد من أقاربها من يأتي لزيارتها.. أخبرتني أنها في المشفى منذ عشرين عاماً وأنها تتألم باستمرار وأن الأدوية والمسكّنات لم تعد تجدي لها نفعاً ..
ذات يوم أخبرتني لوسي أنها ترغب في إنهاء حياتها لكن الكنيسة وقانون الدولة لا يسمح بذلك.. في حالتها الصحية هذه, لم تكن لوسي قادرة حتى على رفع يدها إلا بكل مشقة, ولإنهاء حياتها تحتاج لوسي إلى من يساعدها ..! في ذاك اليوم بكيت كثيرا.. لا لأنني سأفتقدها إذا ما أنهت حياتها فحسب بل لأنني أيضا شعرت أنه ليس من العدل أن لا تتمكن من ذلك إذا ما كان ذلك هو خيارها..! فالأمر ليس من شأني ولا من شأن الآخرين للبت فيه عنها.. لا من شأن المشفى أو الحكومة أو الكنيسة .. فهي التي تعاني.. وهي التي ينبغي أن تختار..!
سألت كاهن الكنيسة عن سبب عدم السماح للسيدة لوسي وأمثالها من إنهاء حياتهم فأجابني بأن الله يحبها ولا يحب أن تقتل نفسها..!
"يوثنيجا" ورأي القانون
"يوثنيجا" أو ما يسمى بــ (القتل الرحيم) هو مصطلح يطلق على عملية إنهاء حياة الشخص طوعيا أو بموافقته وذلك بهدف إراحته من الألم والمعاناة خاصةً إن كان يعاني من وضع صحي خطير وميؤوس من شفائه ويتم عادةً عن طريق الطبيب. ألموضوع ليس سهلا بل هو من المواضيع الجدلية جدا والمختلف عليها خصوصا وأن الحديث عن الموت أو مجرد التفكير به قد يسبب لنا الكثير من الانزعاج والقلق, تجدر الإشارة إلى أن القتل الرحيم هو أمر غير مسموح به قانونيا في معظم بلدان العالم بل وأحيانا يعتبر مماثلاً من ناحية دينية لجريمة القتل العمد. وبعيدا عن الأديان, هناك من يعارض ما يسمى بالقتل الرحيم ويجادل فيقول أنّ في ذلك خطر وإمكانية ممارسة وسائل الضغط وإجبار المريض على إعطاء الموافقة , كما أن هناك أيضا مخاوف من بعض الممارسات العنصرية بما في ذلك انتهاكات العدالة الاجتماعية الممارسة بحق كبار السن أو الأشخاص من ذوي الإعاقة التي قد تؤثر على قرارات إنهاء حياة هؤلاء الأشخاص, إضافة إلى أن هناك مسائلا أكثر تعقيدا تتعلق بقدرة المريض على إعطاء الموافقة بقناعته أو اخذ القرار بإرادته..!
في يومنا هذا, هناك ثلاثة أشكال من القتل الرحيم المسموح بها قانونيا في بعض البلدان:
الشَكل الأول "القتل النشط": وهو ما يقوم به الطبيب المهني بموافقة المريض عندما يقوم بإعطاء ذلك المريض جرعة قاتلة من عقار معين, وهذا الشكل مسموح به في بلدان من مثل هولندا وبلجيكا وكندا.
الشَكل الثاني "القتل المدعم": وهو ما يقوم به الطبيب من مساعدة المريض على قتل نفسه بنفسه وذلك بتزويده جرعة قاتلة من عقار معين يتناولها المريض بنفسه دون معونة الطبيب. وهذا الشكل مسموح به في بلدان من مثل ألمانيا وسويسرا وبعض الولايات الامريكية.
الشَكل الثالث "القتل السلبي": وهو الشكل الأكثر تقبلا رغم السماح به فقط تحت ظروف معينة وفيه يسمح للمريض بإنهاء حياته من خلال إزالة الوسائل العلاجية أو الأجهزة الطبية الموصول بها. وهذا الشكل مسموح به في الدول الاسكندنافية والمملكة المتحدة وفرنسا وبعض البلدان الأخرى.
لوسي
يرجع المصطلح الانجليزي "يوثنيجا" إلى اللغة الاغريقية ويعني فيها "الموت الرحيم" إلا أن هناك من يختلف مع هذه الفكرة فيتساءل كيف يكون هناك "قتل" .. وفي نفس الوقت "رحيم"؟!
الكل منا سينتهي أجله يوما ما, هذا صحيح, لكنه لا يختلف اثنان أيضا على أن هناك من هذه المنايا ما هو أصعب وأكثر إيلاما من الأخرى! فلك أن تتصور تلك العجوز "لوسي" التي طالت وطالت معاناتها دون أن تجد من يزورها أو يخفف عنها.. مثل هؤلاء الناس, لماذا يا ترى لا يُسمح لهم باختيار نهاية عنائهم؟!
منذ أن قابلت لوسي أصبحت على إيمان تام أن هناك حق لنا في اختيار مصيرنا وأنه على الجميع الاعتراف بهذا الحق.. ينبغي أن يُسمح لهؤلاء الناس اتخاذ قرارهم وإنهاء معاناتهم ورحيلهم عن هذه الدنيا بكل كرامة وشرف.
لا أذكر كم من الأسابيع أو الأشهر قمت فيها بزيارة لوسي في غرفتها في كل يوم, لكنني لا زلت أذكر أن زياراتي لها كانت هي الفترات الوحيدة التي لم تتألم فيها لوسي, فقد كانت هذه الزيارات تخفف عنها الكثير من آلامها ووحدتها.
وذات يوم طرقت باب غرفة لوسي, كانت تعج بالناس ولم يسمح لي بالدخول, فأدركت حينئذ أن لوسي قد فارقت الحياة .. أخيرا لم تعد لوسي تقاسي الألم!
لم يكن أمام السيدة لوسي إلا أن تكابد الألم مدة عشرين عاما قبل أَنْ تتحرَّر أخيراً. في كل مكان من هذا العالم هناك أناس آخرون مثلها، يتساءلون بينهم وبين أنفسهم كيف سيكونون قادرين على تحمل ساعة أخرى أو دقيقة أخرى من الألم.
في يوم الخميس, السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2020 ، أقر مجلس النواب في إسبانيا مشروع قانون لإعطاء الصبغة القانونية لحرية الشخص في إنهاء حياته بمساعدة الطبيب بالنسبة للمرضى الذين يعانون طويلا من مرض عضال أو من ظروف صحية دائمة لا تطاق, ومن المتوقع أن يتم إقرار مجلس الشيوخ لهذا المشروع وأن يصبح قانوناً يدخل حيز التنفيذ في عام 2021.
جافيا علي
Comments