"ما احتاجه أنا هو الشجاعة، لكنه غالبا ما تخذلني هذه الشجاعة، والحقيقة هي أنني منذ مرضي عندما كنت اقضي وقتي في الحقول وأنا أعاني من شعور بالوحدة والاكتئاب، شعور يسيطر على حياتي إلى درجة أنني أتفادى الخروج إلى الحياة الاجتماعية، ومع ذلك سيتغير هذا الحال مع مرور الوقت. ما يشعرني بالحياة إلى حد ما هو فقط عندما أقوم بتعليق لوحة جديدة على مسند رسوماتي" -- Vincent van Gogh –
في عملي الحالي أفتتح الكثير من مراسلاتي الالكترونية إلى مشرفي في العمل بعبارة "عزيزي Theo"، وهذا ما يذكرني دائما بالرسام Vincent van Gogh ، الذي اعتاد طيلة حياته أن يكتب رسائلا إلى اخيه الاصغر Theo مبتدئا بهذه العبارة، لم تنشر رسائل VanGogh إلا بعد وفاته وتعتبر هذه الرسائل هي المصدر الأساسي لفهم أفكاره وأسلوب حياته، وكان أحد ما تميزت به حياته هو مكابدته مع الوحدة والاكتئاب – فهو لم يعاني من الوحدة فحسب، بل كان يعتبرها في الوقت ذاته مصدرا هاما لأعماله وإبداعاته، فقد كان يشعر أحيانا بالتمزق والحيرة ما بين حاجته إلى التواصل الاجتماعي وبين رغبته وحبه لإنتاج أعماله الفنية، ونتيجة لذلك فقد عانى من الوحدة والاكتئاب طيلة فترة حياته، ومع أنه واحد من أشهر الفنانين وأكثرهم تأثيرا عبر التاريخ، إلا أنه لم يكن ناجحا في حياته من الناحية المادية، مما أدى به إلى الانتحار عندما كان يبلغ من العمر 37 عاما.
إن الشعور بالوحدة والاحساس بالعزلة حالات يمكن أن تصيب أي أحد منا بصرف النظر عن السن أو المكانة الاجتماعية، وغالبا ما تظهر هذه الحالات جليةً في موسم الاعياد والاحتفالات خاصة في فترة عيد الميلاد ورأس السنة الجديدة، حيث تسود التوقعات والآمال لقضاء الوقت مع الأهل والاحباب، وفي هذه الفترات فإن الأشخاص الذين يعوّلون على الاصدقاء في تواصلهم الاجتماعي يمكن أن يجدون انفسهم خارج نطاق أولويات هؤلاء الاصدقاء خاصة إذا ما عرفنا أن العادة هي قضاء فترات هذه الاعياد مع الاهل والأقارب. وما يزيد الأمر سوءً لهؤلاء الاشخاص الذين يعانون أصلا من الوحدة والعزلة هي تلك الصور التي يرسمونها في أذهانهم عن أجمل الاوقات التي يقضيها الناس مع الأحبة ، كما ويشعر هؤلاء بالمزيد من العزلة عندما يدركون أنه ليس لديهم من الاهل والاقارب من يلجؤون إليه أو عندما يدركون أنهم ليسوا من اولويات اصدقائهم في تلك المواسم.
ومع أن هذا الشعور قد ينتاب الجميع في وقت ما إلا أن الأشخاص ذوي الاعاقة غالبا ما يواجهون مزيدا من المعوقات في هذه الفترة، فغالبا ما لا يتاح لهم السفر او الوصول إلى الفعاليات الاحتفالية، أو قد يتطلب ذلك منهم تخطيطا او عبئا إضافيا، فغالبا ما يفهم عيد الميلاد مثلا على أنه موسم للاجتماع بالعائلة ولم الشمل معها ولكن الاشخاص الذين لا يجدون ذلك فإنهم حتما سيشعرون بعدم الانتماء، ومن ثم فإن عدم توفر مثل هذه الفرص لهم سيشعرهم بالانحباس مما قد ينعكس سلبا على صحتهم النفسية.
وما قد يزيد الأمر سوءً أيضا هو تلك التوجهات اليوم نحو الفردية والاستقلالية في العيش التي نجدها متنامية في بعض المجتمعات في عصرنا الحاضر، فالسويد تضرب أكبر مثال على ذلك حيث أن الأسر ذات الفرد الواحد تشكل ما يقارب نصف مجموع العائلات، وبالتالي فإن حالة الشعور بالوحدة هي مشكلة حقيقية تواجه الجميع، فالإجازات الرسمية مثل موسم عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية يمكن أن تشكل محطات حيوية لأولئك الناس الذين يعانون من الشعور بالوحدة، فهذه الاجازات هي فرصة للم الشمل مع الاهل والاحبة ولكسر ضغوطات العمل وروتين الحياة اليومية.
ونظرا لوباء كوفيد-19 لهذا العام فإن المزيد من الناس قد شعروا بهذا الاحساس من العزلة أكثر من ذي قبل، فبسبب الاغلاقات والقيود المفروضة على السفر فإنه فات الناس في معظم البلدان فرصة الاتصال الاجتماعي وفاتهم تلك اللمسة الانسانية – فهل للمسة الانسانية التي نستمدها من عناق صديق او حضنة من احد افراد العائلة أن يعوضها برنامج Zoom أو Skype؟ كما أن هناك من الناس من ينظر إلى الوحدة والعزلة على أنها وباء آخر.
وبعيدا عن حالة الوباء بل وفي الاوقات الطبيعية، فإن هناك حاجة لتوفير المزيد من الفرص والفعاليات الاجتماعية لأولئك الناس المعرضين للشعور بالوحدة لمساعدتهم على بناء علاقات الصداقة والتواصل الإيجابي، ففي زمن الوباء هذا ثبت أن الحاجة إلى توفير مثل هذه الفرص أكثر أهمية من ذي قبل، غير أننا نعيش اليوم في ظرف في منتهى الصعوبة، حيث أن من أكثر ردود أفعال الحكومات تجاه هذا الظرف هو الأمر بالتباعد الاجتماعي والعزل، مما يشكل سببا لأزمة صحية ونفسية أخرى، وليس هناك من حل سهل وسريع لهذا الظرف القائم.
إن موضوع توفير الفرص والفعاليات الاجتماعية موضوع مهم للغاية بصرف النظر عن مكان الإقامة أو نمط الثقافة، وباعتباري أقيم الآن في السويد، فإنني استخدمت موسم عيد الميلاد وعيد رأس السنة كأمثلة على هذه الفترات الحرجة، ولكنني لطالما واجهت ظروفا قاسية من الشعور بالوحدة والاكتئاب في سوريا أثناء مواسم الاعياد والاحتفالات منها مثلا شهر رمضان، مع أنني كنت أعيش مع شبكة أوسع من الاقارب والعلاقات الاجتماعية. إن الشعور بالوحدة، وكما تدل التسمية، هي حالة لا يمكن ملاحظتها بسهولة، لذا فإنه يتوجب علينا أن ندرك ذلك ونعمل كل ما بوسعنا كي نتواصل مع الأهل والاصدقاء والمعارف وان نتذكر أهمية وتأثير التكاتف الاجتماعي في كل الظروف.
جافيا علي
Chavia Ali
Comments