top of page
  • صورة الكاتبChavia Ali

ما يهم حقا..

في عام 2018 شاركت في ملتقى عام قمت فيه بتشجيع الحضور من الناس على التفاؤل في حياتهم وعلى عدم السماح لإعاقاتهم بالحيلولة دون تحقيق ما يصبون إليه. قدمت لهم النصح والارشاد من خلال خبرتي الحياتية وتجربتي مع الاعاقة وقد لاقت مشاركتي حينها كل الترحاب من الحضور إلا أنني بعد الانتهاء وجدت أن عليّ مغادرة المكان مسرعةَ للبحث عن مكان آخر كي أبكي.. كي أبكي فيه وأصرخ..! شعرت حينئذ أن ما قدمته من نصح وارشاد كان ما هو إلا كذب ..


نحن نعيش في مجتمعات تفرض معاييراً صارمةً على ما يمكن ان نبديه امام الناس أو حتى فيما يتعلق بما يمكن مشاركته بأمان وطمأنينة بين دائرة الاصدقاء، فمجتمعاتنا تعمل دائما على رفع مستوى سقف التوقعات أمام قدرتنا على بلوغ الشهرة او تحقيق الثروة أو إبداء انجازاتنا المهنية أو حتى سعادتنا أو قسطنا من الجمال وصحة ابداننا وكذلك شعبيتنا ونجاحاتنا.! في هذه المجتمعات فإن كل ما هو أدنى من هذه التوقعات أو المثاليات يتم حجبه كونه يصبح مصدرا للخزي والعار وينتهي الى كونه سرا بينك وبين نفسك! فنحاول أحيانا أن نقارن ما بين كفاحاتنا في هذه الحياة مع قصص نجاح في هذه المجتمعات، في عالم يقوم على تقسيم الناس الى "رابحين" و "خاسرين". وفي هذا الخصوص تظهر البحوث حجم مشكلات الصحة العقلية والنفسية التي يعاني منها جمهور المراهقين جراء الضغوط التي يفرضها مجتمع الاقران وارتفاع مستوى التوقعات التي تبديها وسائل التواصل الاجتماعي، وفي المحصلة فإن مجد "النجاح" ذلك ليعمل على المساهمة بإلصاق وصمة العار بأي مصدر ضعف او فشل لدينا، ومع أنه تختلف طرق التعبير عن هذه المشكلات إلا أن نتائجها مدمرة في معظم الاحيان.


في الاسبوع الماضي دخلت غرفة في Clubhouse يدور فيها نقاش باللغة العربية. في ذلك النقاش كانت امرأة قد أفصحت للموجودين أنها تصارع الكبت والاكتئاب لديها، الأمر الذي أدى إلى تعرضها لهجوم كاسح من سائر المشاركين في النقاش، فبعضهم من قال ان المسلمين الحقيقيين لا يمكن أن يتعرضون لشيء اسمه اكتئاب على اعتبار أنه عند مواجهتهم اية مشكلة او تحد فإنهم يلجؤون الى القرآن، وأن هذه المرأة إذا ما كانت تعاني من الاكتئاب فإن ذلك يعني أن إيمانها ضعيف وأنها ليست مخلصة ما فيه الكفاية في عباداتها. كانت نبرة الكلام في الغرفة حادة جدا لدرجة انني لم اتجرأ على الدخول في النقاش كي احاول الدفاع عن تلك الامرأة التي كانت تتعرض للهجوم.


بالتأكيد فإن هناك من الناس من يجدون الدعم والقوة في أديانهم ومجتمعاتهم عند تعرضهم للمصائب، لكننا ماذا نقول في أناس يتدرعون باسم الدين لمهاجمة شخص ضعيف وهش سلبته الظروف قوته وقدرته على المقاومة؟! إنني لأجد ذلك من السخافة كمن ينظر الى الاعاقة على انها "عقوبة الهية" أو كمن يبرر نظام التمييز الطبقي العنصري بالحديث عن مبدأ "كارما" أي أن نوعية أفعالك هي من تقرر سعادتك او تعاستك!


صحيح أنه قد تختلف معاناة الناس لكنّ هذه المعاناة تزداد سوءً عندما تقترن مع النظر اليها على انها وصمة عار من الناحية الاجتماعية ويصحبها التهميش والعزلة، فهناك من هذه المعاناة ما هو أكثر تقبلا من الناحية الاجتماعية وهناك ما هو غير متقبل أو لاغ تماما، فمن المقبول مثلا ان تتسبب بحادث معين وتعترف بذلك جهارا امام الناس، لكن من الأكثر صعوبة تقبل الحديث عن مرض خطير أو مزمن فليس هناك من أحد في الدائرة الاجتماعية يريد الدخول في المعاناة أو الاحباط أو الشعور بالتعاسة. ومع أنه من المتقبل اجتماعيا الأسى والحزن على فقدان قريب مثلاً فإن هناك الكثير منا من يجد نفوراً من الآخرين في مثل هذه المناسبات أو شعوراً بالضيق عند الحديث في هذا الشأن.


أما مسألة الاكتئاب بالذات فهي مسألة يصعب التعامل معها كونها لا يمكن ان يفسرها حدث من الاحداث المحيطة الملموسة بالسهولة نفسها فليس في الاكتئاب جروح يمكن الكشف عنها كذلك فان الشخص المكتئب هو شخص لا يمتلك الطاقة الكافية ولا القدرة على الصمود امام النبذ والرفض من الآخرين.، فينتهي به الامر وحيدا مع نفسه. في المجتمعات الاوروبية، ليس من العادة ان يُتهَم الشخص المكتئب بقلة دينه وممارسة عباداته بل إن من الطبيعي هناك ان يتم ارسال الشخص المكتئب الى الطبيب للقيام بوصف العلاج له وبهذا يعتبر انه قد تم حل المشكلة. في رأيي، هذه ليست الا صورة اخرى لسياسة "إدارة الظهر". وفي ظل وباء الكورونا "كوفيد-19" فإن الكثير من الناس ممن كانوا اعتادوا على التفاعل الاجتماعي بشكل يومي قد وجدوا أنفسهم مجبرين على العيش في عزلة بعيدا عن تلك التفاعلات الاجتماعية مما اضاف الى حالات الاكتئاب وخطورتها, فالصحف اليومية تعج بالإحصائيات حول التكاليف النفسية للوباء الناتجة عن حالات الاغلاق والخوف من المجهول والتباعد الاجتماعي، فالعزل الاجتماعي يعتبر من الخطورة على الصحة ما يشبه خطورة التدخين بينما تعتبر عمليات الدعم والتواصل الاجتماعي عاملاً رئيسياً في التّعافي من المرض. ولكن كي يتسنى لنا الحديث عن مشكلة الاكتئاب هذه، هل كان علينا يا ترى أن ننتظر وباءً أو كارثةً عالميةً أو "حدثاً خارجياً ملموساً" كي نلقي باللائمة عليه بأمان ..؟!


وكما هو الحال في الكثير من مناحي الحياة الاخرى فإن الاكتئاب يأخذ منحى أكثر تعقيداً بالنسبة للأشخاص من ذوي الاعاقة, فهم في صراع مستمر أصلاً من ناحية فرص تواصلهم الاجتماعي وقدرتهم على الحركة او التنقل أو كسب عيشهم، فإن كل ما يجابهه المعاق من العسر مالي والتهميش في الانظمة الصحية وعدم متاحية وسائل التمرين والترفيه لهم اضافة الى الآلام المستمرة التي يعاني منها المعاق وعدم شعوره بالأمن والأمان ناهيك عن قلة ساعات النوم والراحة الناجمة عن الاعاقة، كل ذلك يضيف إلى الحالة النفسية والضغوط التي تنهك هؤلاء الناس مع الوقت، كما ويمكن ان يشعر الشخص من ذوي الاعاقة بضغوط إضافية تفرض عليه أن يكون أنيقا وجذابا ومرحا بشكل خاص لتعويض الاعاقة، ومن ناحية أخرى فقد يعتريه الشعور بالذنب جراء التسبب في وضع أعباء اخرى على من يسانده ويساعده من الأقارب والاصدقاء.


وكما هو الحال ايضا بالنسبة لمشكلات الأمراض الجسدية فإنه ليس هناك من حل سحري لمشكلة من يصيبهم الاكتئاب ، فبعضهم من يفيده علاج الطبيب أو الصلوات وبعضهم من لا يفيده ذلك، إلا أنه ومهما كانت الحالة فإنه ليس من المقبول إضافة ما يسمى بالعزل الاجتماعي والرفض الاجتماعي إلى ما يحمله الاكتئاب من معاناة وأعباء، ففي زمن نفتخر فيه بأنفسنا أننا غزونا الفضاء الخارجي فإنه آن الأوان أن نطور أنفسنا كمجتمعات إنسانية، صحيح أنه قد لا يمكننا إيجاد حلول لكل آلامنا لكنه يمكننا على الأقل الإعطاء من وقتنا كي نستمع إلى معاناة الآخرين.. كي نظهر اهتماماً بهم.. كي نشاركهم.. دونما الاقتصار فقط في هذه المشاركة على صور وقصص نجاح سطحية منمقة..!


جافيا علي


٢٠٩ مشاهدات٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page