آعيد نشر هذه المقالة من بداياتي في التدوين حينها كانت خبرتي قليلة.
من اصعب الأمور الكتابة عن حجم المعاناة التي يعيشها الشخص وذلك بسبب الشعور بالعجز الذي قد يتولد داخلك عندما تجد نفسك قد عرفت المشكلة والظروف لكنك لم تعرف الحل أو بشكل أدقّ أنك لم تعرف ما هو الدور المنوط بك في عملية السّعي من أجل تخفيف أو انهاء هذه المعاناة .
كلنا نعلم أن المعاناة ليست حكر على شعب معين أو أشخاص معينين فهي تتواجد تواجد الحياة وكأن خالقنا جعلنا نعيش المعاناة لندرك قيمة السعادة في الحياة، لكن المعاناة أمر نسبي يختلف من زمان لآخر ومن مكان لآخر ومن شخص لشخص أخر، لهذا علينا أن نتعرف إلى معاناة كل فئة من الناس، واليوم سنتعرف إلى المعاناة التي تعيشها فئة ذوي الاحتياجات الخاصة.
حقيقة إن المعاناة بكل أنواعها وأشكالها المختلفة هي القاسم المشترك بين جميع ذوي الاحتياجات الخاصة إلا أنهم بارعون كل البراعة في تحويل هذه المعاناة الى تحديات تعزز من دافعهم الداخلي لتحطيم هذه الظروف القاسية المتسببة في معاناتهم.
وتوخياً للمصداقية والموضوعية لابد أن نتناول موضوع كل شريحة من شرائح ذوي الاحتياجات الخاصة على حدة فمعاناة المعاق جسدياً تختلف عن معاناة المعاق بصرياً وكذلك فإنّ جنس الشخص وعمره ووطنه كلها عوامل تؤثر على نوع المعاناة التي يعيشها وشدة هذه المعاناة.
وبالنسبة لي فإنني أهدف في هذه المقالة إلى أن أقدم لجمهور القراء الأعزاء نبذة عن أكثر الشرائح معاناة من بين ذوي الاحتياجات الخاصة آملاً أن أستمر في المرات القادمة في الكتابة عن معاناة الشرائح الأخرى. وهنا أود لفت انتباهكم أيها الأعزاء أنني لا أهدف الى إثارة الشفقة والألم في أعماقكم نحو طبقة ذوي الاحتياجات الخاصة بل كل ما أرجوه فقط هو أن نسعى جميعاً بعد قراءة هذه المقالة إلى وضع الحلول وتطبيق ما يمكن منها للتخفيف من هذه المعاناة.
سنتحدث اليوم عن أكثر الشرائح معاناة وهي المراة المعاقة والتي تعاني من وجهة نظري من اعاقة مزدوجة مما يدفعني لأقول أنها تعاني من( DOUBLED) اعاقة, فهي من ناحية كغيرها من جميع ذوي الاحتياجات الخاصة لديها ما يفيض عن حاجتها من تحديات جسدية, ومن ناحية أخرى فهي كمثل كل النساء في شرقنا خاضعة للقيود المفروضة على النساء بشكل عام، ورغم أنها غالباً ما تكون محرومة من حق الأنوثة إلا أنها تخضع للقيود ذاتها.
للمعاناة أنواع لهذا سنتحدث بدايةً عن معاناة ذات الاعاقة داخل المنزل أي ضمن العائلة التي يفترض أنها هي مصدر الأمان والحنان لها، إلا أنه للأسف غالباً ما تتحول الى العكس تماماً فتصبح العائلة هي الكارثة التي تضاعف من اعاقتها ومعاناتها. فالأم مثلاً هي أكثر أفراد الاسرة قربا منها والتصاقاً بها فتمنحها الحب الحنان وتعوضها عما حرمتها الطبيعة إلا أن مثل هذا السلوك من الأم سيجعل الفتاة تنمو نمواً غير طبيعي فتنشأ الفتاة ضعيفة لا تثق بنفسها وقد يجعلها تعتقد أن نهاية هذا الكون هو وراء باب بيتها مما قد يخلق منها عالة على نفسها قبل الاخرين.
ان الخوف على الفتاة المعاقة من الناس الآخرين هي الحجة "الرائعة والمقنعة" التي يتمسك بها بعض الأهالي لخنق هذا الكائن الضعيف فهي في نظرهم فتاة ضعيفة وغير قادرة على حماية نفسها من شرور المجتمع ولرسم اللوحة الكاملة فهم يقنعون الفتاة أن خارج البيت هناك وحوش قد ينقضون عليها بمجرد أن تفكر بالخروج، وهذا ما قد رفع من نسبة الامية في شرقنا بين مجتمع المعاقين بشكل عام والمعاقات بشكل خاص، وكذلك كان للفقر دوره في رفع مستوى الأمية فتلك العائلة التي لم تتجرأ على ارسال الفتاة للدراسة هي نفسها العائلة التي لا تملك مقومات اقتصادية لإحضار المعلم إلى لبيت وليس الفقر وحده هو ما تسبب في رفع مستوى الامية، بل ان الاسباب كثيرة ومتشعبة فهي تبدأ من جهل العائلة لأهمية العمل بالنسبة لهذه الفتاة فالنظرة العامة للفتاة في شرقنا هي أنها لبيتها وزوجها ولا حاجة لها بالتعلم، فكيف بالأمر ان كانت الفتاة معاقة وفي نظر الأهل أنها لا تصلح لشيء ولن تستفيد شيئا إن تعلمت, كذلك فإنّ للحكومات الدور الكبير في هذا الأمر، فمسألة تعليم لمعاقين لم تتلقى حقها الطبيعي حتى الآن في سياق خطط التعليم الحكومية وكذلك المدارس نفسها والتي في معظمها ليست معدّة لاستقبال الطلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة لهذا فإنه من الطبيعي جداً أن نجد أن نسبة الأمية في مجتمعاتنا هي نسبة مرتفعة جدا بين ذوي الاحتياجات الخاصة وخاصة بين الفتيات ذوات الاعاقة مما يعرقل تقدمهن الاجتماعي والنفسي فتعيش الفتاة غارقة في وهم على أنها اقل شأنا من الاخريات, والمضحك هو ذلك التناقض المترسخ في ذهن تلك البائسة، فرغم أنهم يصورون لها أنها انثى ضعيفة مما يجعلها فريسة سهلة إلا أنهم في الوقت نفسه ينظرون إليها على انها امرأة ناقصة وذلك بموجب "الدستور المقدس" للنظرة الاجتماعية السائدة التي قولبت المرأة ضمن شكل معين، وإن لم تكن ضمن ذلك الشكل فهي إمرأة ناقصة, فالمرأة الكاملة بموجب هذا الدستور هي المرأة التي تستطيع القيام بأعمال الغسل وأعمال التنظيف والطبخ وهي التي تستطيع تسلق السلم لتنظيف جدران بيتها وهي التي تستطيع الرقص في الحفلات للفت انتباه الخطاب وهي التي تستطيع اغواء زوجها بكل ما تملكه من مهارات جسدية.
وطبعا بما أنه يجهل الكثير امكانيات المرأة المعاقة فهم يعتقدون انها لا تستطيع القيام بتلك الاعمال لهذا هي امرأة ناقصة، بل وفي أحيان كثيرة تجهل المرأة المعاقة نفسها أنها تستطيع القيام بتلك المهام بطريقتها الخاصة التي يجب ان تبتكرها من وحي حالتها الصحية والحركية. فإذا ما عرفنا لماذا تعتبر هذه الفتاة امرأة ناقصة ولماذا تنشأ هذه الفتاة وهي تؤمن أنها امرأة ناقصة، دعونا نسأل أنفسنا لماذا هي ناقصة ؟! وهل هي فعلا امرأة ناقصة؟!
هل هي فعلا غير قادرة على القيام بتلك الاعمال؟ دعونا نناقش كل منها على حدة ولنبدأ بموضوع غسل الاواني، بنظرة سريعة إلى الماضي سنجد أنه لم يكن هناك في البيوت اختراع اسمه مجلى الأواني وكانت النساء يذهبن مسافات بعيدة الى حيث الماء لغسل الاطباق ثم تطور الامر ووصل الماء للبيوت فكن يجلسن في فناء الدار أمام خرطوم الماء للغسل وثم دخل التطور بحيث تم تخصيص جزء من المطبخ بمكان اسمه المجلى ومع بعض التقدم التقني والاقتصادي دخلت الجلاية الكهربائية التي لا تميز ان كانت السيدة التي تضع الاواني داخلها هي واقفة أم جالسة، اذن من خلال هذا الاستعرض البسيط لتطور طرق الغسل ما رأيكم هل بتوفير بعض الوسائل تصبح المرأة المعاقة قادرة على غسل الاواني ؟!
والحقيقة أنه بقليل من التفهم والذكاء والتقنيات تصبح المرأة المعاقة قادرة على أداء معظم ما تستطيع تقديمه المراة غير المعاقة ضمن منزلها فالمجلى (مثلاَ) لو أصبح بمستوى ارتفاع يناسب حالتها وبقليل من الممارسة ستتمكن من الغسل وفي الحقيقة في زمن التقنيات الكهربائية صارت المرأة غير المعاقة شبه معاقة وذلك لما قامت به الألة من الحلول مكانها في القيام بشؤون المنزل. والآن قد نتساءل ونقول: من اين للمرأة المعاقة ثمن تلك الآلات؟! وهنا نقول ان لمستوى المعيشة الدور الكبير في تشكيل طبيعة المعاناة.
والمشكلة تكمن في أن الغالبية العظمى قد لا تدرك امكانية أن يصبح المعاق معيلاً لنفسه، وذلك لأن الصورة النمطية السائدة هي أن لمعاق متسول أو انسان ضعيف غير صالح لشي وجدير بالشفقة وهذا في أحسن الأحوال، أما في أحوال أخرى فإنه لا يحصل حتى على الشفقة, والحقيقة أنه بتوفير وسائل التعليم للفتاة تصبح قادرة على ان تكون معيلة لنفسها فهناك عشرات المهن المناسبة للفتاة المعاقة وليست القدمين أو العينين أو اليدين شرط أساسي فيها لهذا تستطيع الفتاة ممارستها بتوفير بعض الوسائل لكن قبل الخوض في هذا الشأن علينا أن نميز بين تلك التي كان لها الحظ في التعليم وهي النادرة وتلك التي لم تتمكن من التعلم وهن الأغلبية للأسف, فمن السهل على الفتاة المتعلمة امتهان معظم المهن فهي تستطيع ان تكون صحفية وطبيبة ومعلمة ومهندسة ومحامية, فكل المهن متاحة أمام تلك التي حظيت بفرصة التعلم بشرط توفير التسهيلات اللازمة لها في مجال عملها كموائمة المباني حيث يجب أن يكون سهلاً عليها الحركة ضمنه, و هنا أيضاً يأتي دور الحكومات فهي التي عليها أن تدعم تلك المرأة بتوفير القوانين اللازمة لحمايتها وتشجيع المجتمع على توظيفها وتوفير كل ما يسهل عليها الحياة كمكافأة لها على ما تمكنت من الوصول إليه رغم كل التحديات الجسدية والاجتماعية. أما تلك التي لم تحظى بالتعليم فهي أيضاً تستطيع أن تعيل نفسها بتوفير فرصة تعلم أي مهنة لها فتلك تستطيع أن تكون الخياطة والمربية و كل تلك الاعمال اليدوية التي لا مجال لحصرها وكذلك على عاتق الحكومات ان تشجعها وتدعمها لتعلم المهنة وفتح مجالات العمل أمامها.
الحقيقة ان حصر موضوع المعاناة ضمن مقالة واحدة أمر صعب ومتعب لأننا أيضا لدينا الوجه الاخر للمرأة المعاقة أي تلك التي أصبحت اعاقتها امتياز لها، ولولا اعاقتها لما سمحت لها العائلة بالخروج من المنزل فبما أنهم ينظرون لها أنها نصف امرأة فلا خطر عليها من الخروج للخارج عكس أخواتها وهناك أمثلة كثيرة عن تلك الفتاة في شرقنا، فالأسرة تنظر إليها على أنها أقل من أخواتها ولا تتخيل أنها انثى طبيعية قادرة على جذب أي رجل لهذا جاءت الاعاقة من مصلحتها لتخرج وترى الحياة وتعيشها بالشكل الأفضل إلا أنه ليس بالشكل الامثل لأنها تعاني من مشكلة أنها ليست امرأة.
ان أخطر ما في الأمر هو الجهل بالمرأة المعاقة وبإمكاناتها، فهي في حقيقة الأمر ضحية جهل الاخرين بها, فأنا كثيرا ما يقال لي بعد ان أتناول أي موضوع عن المرأة المعاقة "لم نتخيل أن المرأة المعاقة قادرة على فعل ذلك" فأجيب "تحتاجون لدورة محو أمية في معرفة الاعاقة." والحقيقة انني جديّ في ذلك القول فالجهل بإمكانيات المرأة المعاقة هو سبب المشكلة أولاً, وعدم المطالبة بحقها في أحيان كثيرة هو السبب الثاني للمشكلة, وعدم مساندة الحكومات بجدية لها هو السبب الثالث للمشكلة, أما السبب الرابع فهو وسائل الاعلام التي رسخت قاعدة "يا حرام!" والتسول والمعقد نفسياُ لمصالح خاصة بها أو لجلها هي نفسها بشؤن الاعاقة.
لذلك علينا جميعا ان نتوقف لنتأمل تلك الحالات المنتشرة وسنرى كم ظلمت تلك المرأة وكم ذهبت نداءاتها دون جدوىً ولم تجد الأذن التي تسمعها ولم تجد اليد التي تمتد لها لتصل الى حقها، وكم ظلمت في حقها بالزواج والحقيقة أنه لا مجال هنا للحديث عن هذا الأمر لأنه يحتاج الى الكثير من الكتابة والبحث وأعدكم أن يكون محور المقالة القادمة عن المرأة المعاقة والزواج.
وأخيرا أشكركم على حسن قراءتكم لهذه المقالة الطويلة التي لا تشكل الا جزءاً يسيرً من المعاناة التي يعيشها ذوي الاحتياجات الخاصة وآمل أن نسعى جميعاً ومعاً الى توفير الحياة الكريمة لذوي الاحتياجات الخاصة أخذين بعين الاعتبار أننا قادرون أن نفعل كل ما نؤمن به مع قليل من الارادة والدعم .
جافيا علي
Comentarios